بسام الكلباني
إنَّ التفكير بالدولة شكلاً ومنظومةً أمرٌ شائع لدى سائر الأمم منذ أقدم العصور، ومن الطبيعي أنَّ هذا التفكير السياسي إنّما ظهر بعد قيام الدول بالفعل، فحينما كان المفكرون يكتبون في الأمر أو يتحدثون عنه؛ كانوا يسلكون أحد المسالك الثلاثة: فإمّا استحسان ما تمَّ في أمَمِهم، أو استهجان ذلك واقتراح بدائل وإصلاحات معيّنة نتيجة التجربة، أو الاكتفاء بالتوصيف والتنظير والإشباع الوقتي من خلال مثال معيّن أو واقع مرسوم في أذهانهم، وفي كلَّ تلك البحوث، كانت تخرج من بحوثهم مصطلحات مفتاحيّة مثل الشرعية والعدالة أو الوضع الطبيعي أو الأوضاع الطارئة أو غير الطبيعية.
يذكر الكاتب رضوان السيد في مقالته المعنونة بـ "المشروعية والشرعية والحقوق في التجربة التاريخية للأمة" الفرق بين الشرعية والمشروعية، فالمقصود بالمشروعية أمران: غائيات الكيان الكبرى أو فكرته الحاكمة والسائدة، والأمر الآخر هو المقوّمات الضرورية لتلك المشروعية وهي: الأمة والشعب والأرض، أمّا الشرعية فهي كل ما يتعلق بإدارة الشأن العام، ويشمل هذا الفهم الضيق لمسألة الشرعية عدة أمور لعلَّ أهمها: قدرة القائمين على الإدارة وعلى الإقناع بالأمانة لمشروعية التأسيس، وطرائق وصولهم لتولّي الإدارة، والسلوك العملي المتعلّق بالكفاءة والعدالة والحقوق.
للمفكرين الألمانيين، في العقود الأولى من القرن العشرين، ماكس فيبر وكارل شميت إرث فكريّ في طرائق التفكير بالمشروعية والشرعية، فماكس فيبر وصف ثلاثة أنواع من الشرعية: الشرعية التقليدية، وهي عملياً شرعية التقاليد والأعراف التي قامت عليها الأنظمة الملكية الأوروبية. والشرعية القانونية أو الدستورية الناجمة عن الدساتير الجديدة والانتخابات وممارسة القوانين. والشرعية الكارزماتية، التي يحصل عليها قائد أو ملكٌ أو سلطان من الجمهور مباشرة دون تقاليد أو دساتير، وكان واضحاً أن فيبر إنما كان يدعم النمط الثاني من أنواع الشرعية، مع غيرته من النظام البريطاني دمج بين النمطين الأول والثاني، وأمّا كارل شميت فقد تصّور حضور النمطين الأول والثاني وحدوث توتر بينهما في الأزمات الكبرى. وقد قضى شميت ظاهراً للنمط الأول حرصاً على الدولة والاستقرار؛ لكنه كان في الواقع يقضي لصالح النمط الثالث؛ أي الكارزماتي الهتلري؛ لأن النمط الأول (القيصرية الألمانية) كان قد زال عام 1918 باستقالة القيصر ومغادرته ألمانيا بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى.
المشروعية في النمط الإسلامي: سمّى أصحاب النبي رئيسهم الأول أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله: خليفة رسول الله، وتقول المرويّات الإسلامية الأولى إنهم اتّبعوا في ذلك المفرد القرآني، وذلك بقصد تجنّب النمط القيصري والكسرَوي في الإمبراطوريات القائمة بجوارهم. إنّما هنالك مشكلة في هذا التصور أو التعليل؛ فصحيح أن العرب كانوا يعدّون القياصرة والأكاسرة أهل ظلم وطغيان ولا يريدون التشبه بهم؛ لكن من ناحية ثانية فإن الخليفة في القرآن هو مفرد أطلق على كلٍّ من آدم وداود وهما نبيّان؛ بينما كان زعيم المسلمين الأول غير نبي، كما أنّه لا يخلف بأي معنىً رسولَ الله في نبوّته. ولذا يصبح مفهوماً بل ومؤكداً أن المقصود بالاسم هو غائيات الكيان والدولة الجديدة، فهي إن لم تكن دولة نبوة؛ فإنها خلافة نبوّةٍ؛ بمعنى التزام الدولة الجديدة بأهداف النبي الذي أقام الأمة التي تأسس عليها البناء الخليفي المتمثل في: استخلاف الأمة في الأرض، والتمكين لها، والخروج من الاستضعاف إلى الإظهار، ونصرة الحرية والخير للناس جميعاً، وفي تلك الأهداف مثالٌ لما قاله زهرة بن حورية لرستم قبل وقعة القادسية: "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". فالفرق بين نوعيات المشروعية هو فرق في نوعيات الثقافة؛ فاليونان والرومان تصوّروا لدولهم غائيات الحرية والقانون، المصريون والفرس والبابليون غائيات القوة الفارضة للسلام في العالم، وكذلك الصينيون والمسلمون الذين تصوّروا غائيات الخير والحق والعدل لأنفسهم وللناس أجمعين.
أما الجزء الثاني من جزءي المشروعية، فهو متعلق بمقومات الدولة أو ضرورياتها، وهي تتمثل في الأمة والجماعة، والأرض أو الدار، والسلطة الجامعة والمدبّرة، وقد وجِدَتْ في تجربتنا الإسلامية التاريخية بعد هجرة النبي إلى يثرب عام 622م شواهد تلك المشروعية متمثلة في كتاب كتبه النبي "بين المؤمنين والمسلمين من أهل قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.. أنهم أمّة واحدة من دون الناس..." وقد ارتبط ذلك بثلاثة أمور: تغيير اسم يثرب إلى المدينة. والمدينة مفرد سامي قديم يعني التحضر والاستقرار، كما يعني السلطة والحكم، والأمر الثاني بين الأمور الثلاثة: إقبال النبي (صلى الله عليه وسلم) على طلب "المؤاخاة" بين المهاجرين والأنصار من أهل المدينة؛ وذلك لإقامة الجماعة أو النخبة في قبل الأمة، والأمر الثالث: الطلب من المسلمين بمكة وغيرها الهجرة إلى المدينة أو دار الإسلام، ومعنى هذا أنّ الأمور الثلاثة الضرورية لأي كيان سياسي كانت في طريقها إلى الاكتمال: الدار والأرض والعاصمة، والأمة والجماعة والسلطة التي ظهرت من ضمن التعاقد "بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب...".
ومن الملاحظ أن بحوث الأمة لم تتطور كثيراً بعد النبي، للامتزاج أو الصلات الوثيقة بين البعدين الديني والسياسي في مفرد الأمة أو مصطلحها. وقد كان هناك من قال: إنّ التمييز بين الأمة والدولة أو الشعب القائم في الدولة أو الذي تقوم عليه الدولة؛ إنما يستند إلى الترادف بين الشعب والجماعة، فشعب الدولة الإسلامية القائمة هو الجماعة التي تشارك في اختيار أمير المؤمنين ومبايعته؛ بينما أراد آخرون جعل مشروع الدولة مفتوحاً مثل مشروع الأمة. فالأمة أمتنا: أمة الإجابة (وهي التي تقوم في ديارها الدولة الحاضرة)، وأمة الدعوة، وهي العالم كله والذي ينبغي أن تسعى الدولة لضمّه تبعاً لانتشار الإسلام فيه، وهذا أمرٌ غير ممكن. وبذلك يداخِلُ القصور بين المفهومين أو المشروعين: مشروع الأمة، التي لا يتصوّر أن تستوعب العالم كله ما دام أنّه "لا إكراه في الدين"، ومشروع الدولة التي لا يتصور أن تستطيع الاستيلاء على العالم كلّه.
يبقى الركن الثالث من أركان المشروعية أو شروطها وضروراتها؛ أي السلطة الواحدة في الدار الواحدة؛ فهناك سلطة واحدة في أرض الدولة أو عليها، وقد ظهر ذلك في مكافحة أبي بكر للمرتدّين، الذي رفضوا الخضوع لسلطة أبي بكر، رغم أنهم كانوا من سكان الدار التي تبسط الدولة سلطتها وسيادتها عليها. والذين نقدوا تصرف أبي بكر – في إصراره على قتال الذين سمّوا بالمرتدين – ذَكَروا أنّه ليست هناك دلائل على ارتدادهم عن الإسلام.
منذ نصف قرن وأكثر يتحدث كتّاب كثيرون مسلمون ومستشرقون، وعلمانيون ومتدينون عن نظام الحكم في الإسلام. الإسلام دينٌ وثقافة وحضارة كبرى وتجربة تاريخية هائلة وزاخرة، ممّا يؤكد أن التجربة السياسية التاريخية لأمّتنا تجربة حقوق للأفراد والمجتمعات.
