رؤية للخطاب السياسي المستقبلي للعالم الإسلامي

محمد الشحي

لا شك أنَّ الفلسفة، التي توصف بأنَّها أم العلوم، وأنها قد خرج من رحمها كل التطبيقات الحديثة التي توصف بالعلمية وتُصبغ بصبغة المقبولية العالمية، حتى ليشار أحياناً إليها بوصفها اللاهوت الجديد وأفيون الشعوب البديل، لا شك أنَّها الملاذ الأول والأخير لكل من أراد مُقاربة التطبيقات العلمية لعلوم السياسة الحديثة، ولكل من يروم التنبؤ بالتقلبات السياسية من حوله. والسياسة، كما لا شك تدركون، من أهم مجالات البحث الفلسفي بشكل عام؛ لما لها من ارتباط مُباشر بيوميات الفرد الإنساني. ومن أجل تحليل الحالة السياسية في البرازيل بالمقام الأول، يعمد أستاذ الفلسفة السياسية البرازيلي ريناتو جانين روبيرو إلى خطابات القادة والرؤساء في مقاله "الإسلام وأمريكا اللاتينية والرؤية المستقبلية" المنشور في مجلة التفاهم، ليستشرف التحولات في خيارات الشعوب.

يُؤكد الكاتب إجراء أشبه باللاواعي الذي يفعله عديد من المحللين السياسيين ولا يتسم بالدقة والموضوعية، ولعل لهذا الإجراء مسوغا بحثيا إذا كان ضمن إطار البحث، إلا أنه ليس كذلك عندما يخرج الأمر عن الإطار ذاته. أعني به التصنيفات الآلية للجنس البشري في كتل غربية، وأخرى شرقية، وثالثة شرقية أقصى، ورابعة أفريقية شمالية، وأحياناً تغدو ضمن كتلة البحر المتوسط. ولعل هذا له مرجعه فيما يعرف -مثلا- عند الجاحظ وابن خلدون بطبائع الشعوب، فلكل شعب طبيعة في تعامله مع قضية إنسانية بعينها. ويُؤكد الكاتب على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار الفروق الدقيقة المهمة التي تقوم داخل كل كتلة من هذه الكتل؛ لذلك نجده يؤكد على أنَّ الثقافة البرازيلية المرتبطة بالبرتغالية "الغربية" هي ثقافة منشقة عن الثقافة الغربية على الرغم من أنّ بلدا كالبرازيل لم تُحافظ على سكانها الأصليين إلا فيما ندر.

يدعم الكاتب دعواه تلك بأنَّ العنصر القوي في ثقافة البرازيل -كما في ثقافات بعض الشعوب اللاتينية- هو ذاك التعلق الوجداني الكبير بالمجتمع. وفي هذه النقطة من المقال يبدأ تحليله المشرِّح لطبيعة الفلسفة السياسية في البرازيل وترابطاتها مع سياقها العالمي. يعطف على ملاحظته تلك أن حكم القانون وسيادته والمقاربة العقلانية للعالم لم يكونا أبدا العنصرين الأساسيين في البرازيل، ويربط بين هذه الملاحظة وظاهرة استشراء الفساد على نطاق واسع.

إنَّ هذه الملاحظة لدقيقة؛ فما الدولة سوى صورة ممثِّلة لما هو عليه المجتمع، فإن كان المجتمع ذا سمة ممتدة، ويقيم للروابط الأسرية، والمجتمعية (وفي حالتنا العربية الخليجية القبيلة)، فإنه لا بد واجدٌ طريقة للالتفاف حول المواد القانونية ليكرّس ذاته في خدمة الغول الأكبر "المجتمع"، خوفًا غير مُدرَك أحيانا من الإقصاء الذي قد يُمارس ضده إن هو لم يفعل ذلك، إذن فهو، بفعله هذا، يضمن انخراطه بالمجتمع وقَبوله فيه فردا من أجل مجتمع. بينما في الحال الأخرى، في المجتمع النووي، لا يعبأ الفرد برأي المجتمع الكبير، وهو لا يجد نفسه مكرَّسًا لخدمته، بل هو أداة، بكل ما لهذه الكلمة من دلالات جافة، لتنفيذ القوانين والأنظمة، وبالتالي هو غير خائف من الإقصاء غير الموجود أصلا بالفعالية ذاتها التي يتمتع بها في المجتمع الممتد.

كما يلحظ الكاتب أن هذه السمة، سمة العاطفية الغالبة، تحوّلت من كونها سمة سلبية إلى إيجابية؛ إذ إنها أسهمت في إشراك مجموعات كبيرة من الساكنة في صنع القرار واختيار الرؤساء ورؤساء الوزراء، فهذه المجموعات الجماهيرية أميل لخطاب العاطفة منها لخطاب العقلانية. وتتقاطع هذه الفكرة مع ما يقرره جوستاف لوبون في سيكولوجية الجماهير من أن الجماهير تحركها العواطف لا العقلانية، ولذلك يرى ضرورة وجود هذا الخطاب نابعًا من نخبة مثقفة عقلانية لضمان الكفاءة في العمل السياسي. قد تبدو فكرة لوبون مفرطة في السذاجة والمثالية إلا أنها لا تختلف كثيرًا مع ما ذهب إليه كاتب المقال. ومن النقاط المحورية في المقال، ملاحظة الكاتب أن الثقافة الغربية بسطت مفاهيمها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على العالم أجمع، شرقه وغربه، ويقر بتفاوت هذا التأثير بين الشرق والغرب، وبتغاير التعامل الغربي مع الشرق الإسلامي بالنسبة لتعامله مع الثقافة البرازيلية مثلا؛ فمع الأول احتُرمت ثقافة البلدان الإسلامية، ومع الأخرى تم سحق الديانات المحلية ومحق التماثيل الخاصة بها. ويُرجع هذا إلى قوة النزوع الإسلامي. لكنني لا أفهم ما يعنيه الكاتب بقوة النزوع الإسلامي، على أنني أظن أن السبب في ذلك أن الثقافة الإسلامية عموما أثرت المحتوى الديني لها بالعلوم والتفاسير والمنطق وحتى الفلسفة، الأمر الذي أعطاها -فيما أدّعي- متانة وثقلا حضاريا وبُعدًا حيويًّا، في حين أن الثقافات الأخرى كانت أبعد من هذا الإثراء فنُظر إليها بوصفها ثقافة حيةً فحسب.

كما يلاحظ الكاتب أن الثقافات المغلوبة (دعني أستخدم هذا المفهوم بمدلولاته البسيطة) بدأت تعي ضرورة إضفاء بصمتها الخاصة على تلك المفاهيم الثقافية الغربية، فالمحتوى الثقافي الغربي، عندما انتقل إلى البرازيل، فإنه بدأ يصطبغ بصبغة خاصة متمثلة في اتخاذ المنحى العاطفي خطابا مؤثرا في الناخبين. وهو في سمته الطوعية تلك يحيلنا إلى سمة مشابهة في الحكايات الشعبية، خاصة إذا علمنا أن التغيرات الحاصلة للمفاهيم الثقافية الغربية متأتية من رغبة لاستمالة الغالبية الشعبوية. وعلى الرغم من أن تلك المفاهيم الغربية لا تخلو من مساوئ أبرزها أن الانتخاب حق لفئة من الساكنين دون فئة أخرى، كالعبيد والسود مثلا في أمريكا باعتبارهم مواطنين من درجة ثانية، إلا أن هذه المساوئ تم تجاوزها في التجربة البرازيلية.

وفي حين عدّت الثقافة الغربية إقحام المشاعر والأحاسيس في الخطابات السياسية ضربًا من تكريس التحيز لدى الحاكم أو القاضي أو البرلماني، وكانت الأعراف السياسية تقتضي أن يستبعدوا في خطاباتهم كل ما له صلة بالمشاعر مثل "يسرني أن أصدر إليكم الأوامر بفعل كذا.."، لكن الأمر اتخذ منحى آخر مع زعماء أمثال كارلوس ماغالهايس وباولو سليم معلوف في البرازيل، فالأول وضع رسم قلب محل الحرف اللاتيني ، والآخر جعل عبارة "أنا أحب ساوباولو" علامة لحملته الانتخابية. كما استعمل الرئيس "لولا" استعارات رنانة في سياق تأخر المشاريع المنفذة، فقد استعمل مثلا "التسعة أشهر التي تستلزم ولادة المولود" للمشروع الذي يتأخر بحدود التسعة أشهر، و"السنتان اللتان تلزمان المشروع حتى يدرج"، و"شجرة جابوتيكاباس التي تستلزم عشر سنوات حتى يبدأ ثمرها بالاستغلال".

ختاما، يؤكد الكاتب على قيمة الاختيار الحر من كل قيود النبلاء والارستقراطيين التي كانت تصبغ خياراتهم الانتخابية السابقة، وعلى قيمة أن يُدمج الناس أكثر فأكثر في العملية السياسية، لذلك وجبت المزاوجة بين الخطاب العاطفي والعقلاني في المشهد السياسي بحيث تتكاملان في صنع ثقافة ديمقراطية حقيقية، خاضعة للشروط التاريخية لتتحقق أهميتها بكل مساوئها وعيوبها في العالم الإسلامي كما تتحقق في البرازيل.

أخبار ذات صلة