الكنيسة بين النظرية والتطبيق في قضايا المواطنة والتعددية

هنية الصبحية

إنَّ عالم ما بعد الحداثة أفرز العديد من القضايا الشائكة؛ ومن بينها: قضية المواطنة والتعددية باعتبارهما مصطلحين فكريين لأسلوب حياة يتخذها الإنسان. إنَّ هذه القضايا ترتبط ارتباطا وثيقا بالدولة الحديثة، التي يسود فيها مفهوم العلمانية، وهو انفصال الدين عن الدولة، لكنه بالمنظور الإيجابي. وعليه، يأتي تساؤل الكاتب في المقدمة: هل المؤسسة الدينية (الكنيسة) لا رؤية لها في ظل القضايا المعاصرة والمفاهيم الحديثة؟ هذا ما حاول المحلل السياسي إيميل أمين مناقشته وتسليط الضوء عليه في مقاله -المنشور بمجلة "التفاهم"- "رؤية كنسية لقضايا المواطنة والتعددية قراءة موضوعية في ضوء تجليات الألفية".

إنَّ الكنيسة نمط تاريخي مكون من مجموعة من الرهبان والراهبات يرأسهم بابا الكنيسة، ولها دور رئيسي في طرح قضايا النزعات والصراعات، ويتساءل أمين: هل من إطار مرجعي للرؤية الكنسية حول القضايا العصرية المنتشرة؟ ويجيب مشيرا إلى أن الأمر معقد ولا بد من النظر إلى الاختلاف القائم بين رؤى كل من: الكنيسة الكاثولوكية الرومانية والأرثوذكسية القبطية والكنيسة الإنجليكانية والأرثوذكسية الروسية والجماعات البروستاتنية المنتشرة في العالم. وعليه، اعتمد الكاتب على القواسم المشتركة بين رؤى الكنيسة المعاصرة في القضايا.

وعليه، فإنَّ من أهم المفاهيم التي طرحها الكاتب وطن ومواطن ومواطنة؛ حيث تعددت السياقات المعرفية في تحديد تعريف دقيق وموحد للمفاهيم، ومن خلال هذا المقال حاول اللجوء إلى تحديد مفهوم موحد ومشترك.

كما يشير إلى أن هنالك الكثير من الجدال والنقاش بين علماء الاجتماع في الاتفاق على مفهومي الوطن والأمة، فأشار الكاتب إلى تعريف الوطن بالصورة المتفق عليها من قبل العلماء والباحثين وهو أن الوطن مساحة من الأرض يعيش عليها مجموعة من الأفراد تربط بينهم روابط مشتركة؛ مثل: اللغة، والدين، والعادات، والتقاليد والتاريخ... وعلماء الاجتماع اتفقوا على أربعة أبعاد؛ هي: الجغرافيا تمثل الأرض، والتاريخ يمثل حركة الجماعة، والبشر يمثلون المواطنين، والمشروع القومي يمثل القضايا المصيرية.

وأوضح المفكر الإسلامي ابن تيمية أن الأمة تلتقي في فعل واحد يستهدف هدفا واحدا. فنجاحها يظهر في القضايا المصيرية للمشاريع القومية. أما مفهوم المواطن، فهو الفرد الذي يعيش في المجتمع وله حقوق وواجبات أساسية تشتمل على كل الأبعاد الحياتية، سواء كانت الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

أما مفهوم المواطنة، فقد بدأت ملامحه في القرن الخامس عشر والسادس عشر، إلا أنه ظهر فعليًّا بنظرية العقد الاجتماعي التي جاء بها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، ولم يطبق في كل الدول إلا بصدور القانون الدولي الذي يحمي مواطنة الإنسان في أي مجتمع مدني معاصر.

فالمواطنة تعتمد على مفهومين أساسيين يتشاركان لتحقيق المواطنة؛ هما: المشاركة والمساواة. فمشاركة المواطن في بناء وطنه، تسهم في تحقيق درجة المواطنة، ومعاملة الوطن للمواطن بمساواة تامة دون التفرقة بينهم بما يحقق درجة المواطنة الحقيقية من قبل المواطنين، وعليه فإن العلاقة تبادلية وحتمية بينهم.

من هنا؛ يأتي الكاتب ليحدد الإطار العام للرؤية الكنسية؛ فيشير إلى تعدد رؤى المجامع المسكونة الكنسية والتي تعتبر مصدر التعليم الكنسي، البابا من جهة ومن جهة أخرى مجموع الأساقفة المنتشرين في العالم كله، والمتحدين مع الكرسي الرسولي؛ حيث إن المجامع الشرقيّة 8 مجامع، والغربيّة 13 مجمعًا. والأقرب للرؤية الحديثة المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، والذي يتمحور حول الإنسان.

وقد جاء فيه أحد النصوص الوحيدة التي ذكرت الرؤية الكنسية المسيحية؛ وهي: "يهيب المجمع بالمسيحيين كمواطنين في المدينة الأرضية والسماوية أن يقوموا بواجباتهم الزمنية بأمانة ونشاط مهتدين بروح الإنجيل"، انفرد النص بذكر لفظة الموطنين ودورهم في خدمة الوطن برؤية دينية كنسية، إضافة لاهتمام هذا المجمع بالإنسان تحديدا، إلا أن بقية النص يذكر رؤية لبعض المفاهيم التي لا تزال تتبنى من المجامع الشرقية والغربية. وبعدها، يناقش الكاتب أن الرؤية مضى عليها أكثر من خمسين سنة، إلا أنها توجد توجيهات للإصلاح والبناء، إضافة إلى دعوة مؤمنيها لأن يكونوا فاعلين اجتماعيين بصورة إيجابية، ليستطيعوا أن يتعاملوا مع كافة القضايا الوطنية كونهم مواطنين، وبهذا هم يقدمون الخدمة للجماعة البشرية -المواطنين- والجماعة الكنسية في آن واحد كونهم جزءا منهم.

كما يؤكد الكاتب تجذر رؤية الكنيسة لفكرة المواطنة ودور مواطنيها في بناء مجتمعاتها منذ انعقاد المجمع المسكوني الثاني في الستينيات وإلى فترة حديثة العهد بدعوة للاجتماع من البابا بندكتوس السادس عشر وأساقفة الكاثوليك في سينودس الشرق الأوسط 2010 في (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين وإسرائيل ومصر وقبرص وتركيا وإيران، إضافة للرعايا الكاثوليكية المقيمة في الخليج العربي"؛ حيث تم البحث في التحديات التي تواجه المسيحيين وإيجاد حلول مشتركة لممارسة شعائرهم الدينية. وبهذا، فإن البابا بندكتوس يدعو المواطنين العرب من المسيحيين إلى تعزيز المواطنة؛ حيث لا بد أن يظهروها لأوطانهم فهم بمثابة المختبر الذي يحقق مستقبل الوضع الكنسي في الشرق الأوسط.

ويتساءل الكاتب حول رؤية الكنيسة الأرثوذكسية المصرية وعلاقتها بين المسيحي والمجتمع، وبين الكنيسة والدولة في ظل سيادة منظومة المواطنة والقوانين والتشريعات الدولية. حيث يعد غريغوريوس معلم وقديس الكنيسة المصرية الذي اهتم بدراسة اللاهوتية في البحث العلمي على أنه اهتم بعلاقة الدين والدولة من خلال تقديمه اقتراحا لوضعها في الدستور الدائم للبلد وتعديل الخطابات المتعلقة بذلك أكثر من مرة، إلا أن الكاتب يرى أن الرؤية الكنسية ومناقشتها لفكرة المواطنة المجردة عن مسارات الدولة الدينية في أنها تتكرر وتشكل تعثرا بين المصريين لم يتم الاتفاق عليه. ويشير إلى أن المواطنة في العالم العربي تسير في اتجاه معاكس، وهذا ما يؤكده الأب غريغوريوس حينما انتقص من فكرة المواطنة ويميل لطرح المنظومة الدينية كعامل تمايز واختلاف وبأكثر سلبية في الدستور المصري الأخير؛ وبالتالي نقصت أطروحات المواطنة في الكنيسة والأزهر الشريف.

ويعتبر الأب والقديس متى المسكين كاتبا ومفكرا رهبانيا من عائلة غنية، زهد في دنياه وترك كل ما يمتلكه، تخرج من كلية الصيدلة وعمل بصيدليته الخاصة، إلا أنه زهد وذهب لينتسب كراهب في الكنيسة. يعد متى المسكين من المهتمين بدور المسيحيين في المجتمع والعلاقة بين الكنيسة والدولة، وأوضح أن المسيحي لكي يؤدي دوره في المجتمع لا بد له أن يحبه حبا ضميريا بعيدا عن تيارات الفكر المنهبطة التي لا تتناسب مع فكر المسيحي.

يشير الكاتب إلى حتمية وجود لاهوت تحرير عربي يعنى بالوضع الاجتماعي للإنسان؛ بحيث يكون مماثلا للاهوت أمريكا اللاتينية، ولكن لابد أن يتم مراعاة الخصوصية السياسية والاجتماعية والثقافية الخاصة بالوطن العربي. وفي سياق ذلك، قدم الكاتب مجموعة من التوصيات التي تراها الكنيسة مناسبة لتأصيل أفكار المواطنة والتعددية في هذه العصرنة الجديدة، ومتسقة مع حقوق الإنسان؛ ومنها: تجذير حب الوطن والمواطنة، وحث المواطنين المسيحيين على خدمة وطنهم، إضافة إلى تعميق الولاء بمفهومه الواسع من خلال دعوة الكنيسة لمؤمنيها في تشكيل فكر لاهوتي جديد يعترف بعمق الوطنية، ويقدس التعددية في العقيدة والهوية. كما أشار الكاتب إلى أهمية الإصلاح بين التعليم والإعلام؛ حيث إن المواطنة الكاملة والتعددية الأنموذجية ترتكز على أساسين؛ هما: التعليم والإعلام، وذكر الكاتب أيضا ضرورة إصلاح الخطاب الديني في الكنيسة من خلال تضمينه قضايا الوطن والمواطنة والتعددية، إضافة إلى أهمية تنمية العمل المشترك بين كل من المسيحيين والمسلمين، وإيجاد الحلول للمشاكل العلمية، وأيضا بذل الجهود المشتركة لحل مشاكل الصراع الثقافي بينهم.

... إنَّ جميع الديانات السماوية تدعو لتدعيم وتأصيل الفكر الوطني والوطنية، وإن التعددية وجدت من أجل التعارف وتقبل الآخر من أجل التسامح والعيش بسلام وأمن واستقرار؛ لذلك نؤكد على أن كلًّا من الإسلام والمسيحية واليهودية يدعو للصلاح وتجذير المواطنة في نفوس أبنائها.

أخبار ذات صلة