هل الحضارة هي بمثابة القبائل الإنسانية الكبرى؟!

وليد العبري

في تلاحق الدوائر الحضارية نشبت صراعات وسالت دماء وسُطر تاريخ من التناحر البشري، غلب على المسارات الإيجابية التي نجمت عن هذا التلاحق، وذلك التلاقح، الذي لا ينتهي بين الحضارات الإنسانية، على مستوى الفكر والحركة، والذي لولاه ما مضت حياة بني آدم على الأرض في خط متصاعد، بحثاً عن الحقيقة والتمكن والرفاه.

وغلبة التناحر والتباغض على التعاون والتفاهم فيما تمَّ تسجيله ورصده عن العلاقات المستمرة بين الحضارات يعود إلى أمرين أساسيين، الأول أن الصراعات المسلحة هي الأحداث الأكثر لفتاً للانتباه، وهذا ما تحدث عنه الكاتب عمار علي حسن في مقاله المنشور بمجلة التفاهم بعنوان "نحو مُقاربة أجدى للتفاهم مع الحضارات الأخرى" وفيه يرى أنّ هذه الصراعات قد تترك علامات يُمكن معرفتها وتحديد معالمها بيسر وسهولة، وبالتالي يمكن تدوينها لتطغى على التفاعلات الناعمة، وغير المرئية، بين الحضارات التي لها البقاء الفعلي، والفعل الإيجابي، الذي يغلب مع الزمن كل ما سطره المحاربون بكل عدتهم وعتادهم، بدءاً من سنابك الخيول والرماح الممشوقة المسنونة، وانتهاء بجنازير الدبابات والصواريخ عابرة القارات.

والثاني هو أن الإمبراطوريات استخدمت في تمددها العسكري تعبيرات ومفاهيم حضارية كخطاب تحايلي يرمي إلى تبرير مسلكها العدواني التوسعي، حيث تحدث قادة الجيوش عن رسالة حضارية مزعومة، وأرسلوا إلى الشعوب المراد غزوها رسائل تقول إنهم لا يستهدفون احتلال الأرض ولا نهب الثروات وإنما تمدين الناس وترقية حياتهم وتخليصهم من حكامهم الطغاة.

لكننا في هذه اللحظة التاريخية الفارقة لا ينبغي أن نستسلم للمقولة التاريخية التي تتصور أن "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدًا"، لأنها أولا من صك المحاربين وليست من صناعة أهل الفكر والدراية، وهي ثانياً تختلف مع منطق الحياة وطبيعة تطورها التي تقول بجلاء إن تاريخ الإنسانية عبارة عن طبقات يعلو بعضها بعضاً، وإن الناس جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها صنعوا طيلة عمرهم المديد هذه الطبقات، فصارت رقائق حضارية متواصلة ومتداخلة ومتفاعلة.

وقد حاول بعض المفكرين الغربيين أن يهيلوا التراب على عطاء الحضارات الأخرى، ويهضموا حق شعوبها في الإبداع الخلاق، فروجوا لفكرة "المركزية الأوروبية" ذات الصبغة العنصرية، التي تتوهم أن شعلة الحضارة انتقلت من الإغريق الأقدمين إلى الأوروبيين المحدثين، ولم تمر بأي وسائط، ولم تتأثر في نشأتها بأحد، ولم تنقل في وصولها إلى الزمن الحديث عن أحد.

ولكن هذه المغالطة لم ترض كثيرين بما في ذلك بعض العلماء الغربيين؛ إذ تحدث بعضهم عن كون الإغريق نقلوا عن الحضارة الفرعونية، وأن العرب والمسلمين أضافوا الكثير إلى ما أنتجته القريحة الإغريقية، وأهدوه للإنسانية، فالتقطه الأوروبيون وهضموه واستفادوا منه، وزادوا عليه كثيرا حتى وصلنا إلى التقدم العلمي والتقني الرهيب الذي نعيشه الآن.

ولما أراد بعض العقلاء أن يقربوا بين البشر المُختلفين في الألسنة والألوان والمشارب والأهواء والظروف الحياتية، ساروا في اتجاهين الأول هو حوار الحضارات، والثاني يتعلق بحوار الأديان. ولكن الطريق الأخيرة ملغمة إلى أقصى حد، فنقاط الخلاف بين الإسلام والمسيحية واليهودية تتمحور في جانب كبير منها حول العقيدة، وهي مسألة غير قابلة للتفاوض ولا التنازل أو المساومة.

وعلى الرغم من أن الأطراف المتحاورة تحاول تجنبها أو تدعي ذلك فإنِّها لا تستطيع أن تتجاوزها، ولم تنجح إلى الآن في تفرقة جلية بين "اللاهوت" و"الناسوت". ولأجل كل هذا اقتنع كثيرون في نهاية المطاف، وبعد جولات عدة من النقاش والمداولة، بأن الحوار يكون بين أتباع هذه الديانات، أو بين المتدينين أنفسهم، وليس بين الأديان ذاتها.

والوصول إلى تلك النقطة يجعل الحديث عن حوار الحضارات لا حوار الأديان هو الأجدى والأنفع. فالحضارة تشمل الدين، لكن الأخير لا يشملها، وفي الوقت نفسه فإن تجاذب أطراف الحديث حول الحضارات أخف وطأة على النفس وأيسر على العقل من التعامل مع العقائد. ووجه الشمول في المدخل الحضاري أنه يجمع بين الدين وغيره في نسيج واحد مُترابط، فيبتعد الحوار عن المسائل العقدية ليركز على الثقافة النخبوية وطرائق المعيشة بما فيها العادات والتقاليد والموروث الشعبي ومستوى المعارف التي ارتقى إليها تجمع بشري ما، والأفكار المُتداولة في لحظة التحاور، والآداب والفنون التي يتم إبداعها، وأنماط الإنتاج السائدة.

ويدخل كل هذا محل نقاش حول سبل استفادة كل طرف مما لدى الآخر من هذا المخزون الحضاري، المادي والمعنوي، وهنا يصبح الباب مفتوحاً أمام عطاء مجالات علمية وعملية عديدة ومنها السياسة والاقتصاد والاجتماع والفنون.

يفضي التتبع الدقيق للخطاب الفكري لحوار الحضارات إلى نتيجة مفادها أنَّ هذا الحوار يفتقر، حتى هذه اللحظة، إلى منهج محدد، ورؤية واضحة، وجدول أعمال يحوي الموضوعات التي ينبغي أن يدور حولها الحوار.

وقد ينبع هذا الخلل من اختلاف مقاصد إطلاق هذا الحوار لدى القائمين به والمشاركين فيه، وغلبة السياسي على الفكري، وعدم قيامه على أسس يتوافق عليها الجميع. وحتى يتم هذا الحوار على أكمل وجه ممكن، يجب أن نبحث عن مقاربات أكثر جدوى لتحاور الحضارات الإنسانية، تفتح الباب أمام إشراك فئات أخرى، وتطرح قضايا جديدة، وتعمق النقاش كيفا، وتزيده كما، بحيث يأخذ صيغة "التفاعل الخلاق" بين وحدات حضارية متجاورة ومتزامنة، مهما كان حجم التباينات القائمة، وتتجاوز مجرد توظيف المسألة الحضارية في إدارة الأزمات أو تلطيف حدتها، لتصبح منهج حياة عالميا، تساهم البشرية في صناعته، وتروم به ومعه التقليل من الصراعات الدولية، وتخفيضها إلى الحد الأدنى، سواء عن طريق الإطفاء التدريجي لوهج النزعات الاستعمارية، أو تقليم أظافر الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وتبديد سوء الفهم المتبادل بين الشعوب.

وعلى اختلافها فإن هناك عدة عناصر تتحدد بها الحضارات، وهي الجغرافيا والناس والثروة والثقافة والعقلانية، وأخيرا الخبرة والمقصود بها هنا أن الحضارات الإنسانية تتوارث مجدها وإمكانياتها، ويركب بعضها بعضا في رقائق متتابعة عبر التاريخ البشري المديد.

وأخيرًا يمكن القول إنِّه يجب أن يظل الحوار مفتوحاً بين الحضارات، أياً كان وضعها، ومهما كان حجم عطائها، فلا أحد يمتلك كل شيء ومعنى، ولا أحد معدوم من أي شيء وأي معنى.

ومن هنا فإنّ الجميع يحتاج بعضهم إلى بعض، وبالمفهوم الاقتصادي فإن كل طرف حضاري لديه ميزة نسبية في أمور معينة، ومن ثم يصبح من الرشد أن يتبادل الناس المزايا، وكل ما يفيد البشرية في بحثها الدائب والدائم عن الترقي في المعيشة، وتحسين شروط الحياة وفرصها.

وهذا الفهم، الذي يجب أن يشتد ساعده ويترسخ، لا يصح أن يترك فقط للمؤسسات الرسمية، سياسية أو دينية أو ثقافية، لكن من الضروري أن يمتد إلى الأفراد العاديين المتحضرين، في مختلف أرجاء المعمورة، ممن يؤمنون بأن الحوار هو الطريق الأمثل للتعامل بين البشر، وبالتالي السبيل الأفضل لإقامة علاقات إيجابية بين الوحدات التي ينتظم فيها الناس، مؤسسات أو دول أو حضارات جامعة.

إنَّ ثورة الاتصالات الرهيبة، التي حولت العالم بأسره إلى قرية صغيرة، تقدم آلية قوية تحاور بين المتحضرين، بعيدا عن المسارب الرسمية، التي تسيس الحوار وترهنه بالمصالح الدولية والتصورات الإستراتيجية لكل دولة، أو تكتل إقليمي ما.

والحوار بين المتحضرين يجب أن يشمل الأفراد والتجمعات الشعبية على حد سواء، فمؤسسات المجتمع المدني التي يشتد ساعدها ويترسخ وجودها في مختلف التفاعلات والعلاقات الحياتية، وتتعزز روابطها على المستوى العالمي، عليها دور كبير في إطلاق حوار المتحضرين، جنبا إلى جنب مع الجهود الفردية، التي يبذلها أناس ضمائرهم يقظة، وقلوبهم موجوعة، ونفوسهم قلقة، من حالة التوحش التي يعيشها العالم.

 

 

 

أخبار ذات صلة