محورية القرآن في "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" ليوهان جوته

سالم البوسعيدي

إنّ القرآن الكريم نور الله الكوني الخالد، سطع من الشرق فأبهر جماله أبصاراً نقية وقلوباً سوية من الغرب، ولم يخل ذلك من نظرات غير منصفة بسبب التحيز والدوافع الداخلية. ورغم تعدد الجوانب التي تناولها الباحثون الغربيون في ما يخص القرآن الكريم إلا أن تأملهم للجانب الأدبي للنص أمر ملفت؛ فهو يحتاج مزيجا من تعمق في فهم دلالات النص وبيئته اللغوية بالإضافة إلى استشعار الحس الأدبي الرفيع للكتاب. وكان من أبرز من تأثر بالقرآن الكريم أدبيا وانعكس ذلك في نتاجه الأدبي؛ الشاعر الألماني الكبير يوهان جوته (١٧٤٩-١٨٣٢م) في ديوانه الشهير "الديوان الغربي الشرقي" أو كما سماه أيضا "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي". وسنناقش هنا مقالا لسعيد عبيد بعنوان (جوته والقرآن الكريم من خلال "الديوان الغربي الشرقي") والمنشور في مجلة التفاهم.

استهل الكاتب مقالته بالحديث عن علاقة الغرب بالقرآن الكريم وتدرجها من الترجمات والدراسات المغرضة في عصر الحروب الصليبية ثم مرحلة التنصير المؤسسي وصولاً إلى المستشرقين وحراكهم بشقيه السلبي والإيجابي في تناول ودراسة النص القرآني. وقد استغرق الكاتب في توضيح البعد الديني المتحيز لدى الغرب الذي يراه دافعا لعدم إنصاف النص القرآني، ورغم أهمية هذا البعد إلا أنه لايمكن إهمال جوانب أخرى كالجانب اللغوي والاختلاف الثقافي والحضاري والبعد التأريخي وغير ذلك. ثم انتقل لذكر ديوان جوته ، الذي وجد في القرآن طمأنينة روحية ولذة عقلية وجاذبية فنية جعلته يولي وجهه شطر الشرق ليستلهم كل ذلك في صياغة ديوانه الشرقي.

 

كان هذا الديوان من أرق وأجمل ما أبدعه هذا الشاعر الألماني فانعكس فيه انفتاحه على الشرق وعلى الإسلام خصوصا وكان للأدبين العربي والفارسي حضورهما الواضح في تجربته الشعرية. كما بدا جليا تأثر جوته بديوان الشاعر الغنائي الفارسي الأشهر حافظ الشيرازي؛ والذي سمي حافظا تكريما لحفظه للقرآن الكريم. وقد عاش جوته تجربة حب متأخرة -في نهاية عقده السادس- كانت دافعا لتدفق حس الجمال وروح الشباب في ديوانه.

ينقسم الديوان الشرقي إلى قسمين، الأول شعري والثاني نثري. ويتكون القسم الأول من اثني عشر كتابا تناثرت فيها أكثر من ٢٤٠ قصيدة. أما القسم الثاني فيتضمن التعليقات التي وضعها غوته لتساعد في فهم الديوان، وهي تختص بتاريخ الآداب العربية والفارسية والعبرانية.

وقد بدا جليا تعلق جوته بروح الشرق من أول العنوان Diwan”" وهو اسم مشترك بين العربية والفارسية، ورسمه العنوان بخط عربي على الغلاف، كما أنه وضع أسماء الكتب في القسم الأول باللغة الفارسية وتحتها ترجمتها الألمانية، وحتى في خاتمته أشار إلى ملمح لطيف في آخر صفحة من الديوان حيث قال "سلم عليه بهذه الورقة التي هي أول الكتاب وآخره" إشارة ً إلى بدء الكتابة من اليمين لليسار في الشرق وعكس ذلك في الغرب.

اطلع جوته على القرآن الكريم في سن مبكر -وهو في الحادية والعشرين من عمره- عن طريق صديقه هيردر الفيلسوف الألماني، وقد مكن له ذلك معرفة وثيقة انعكست بجلاء في ثنايا عمله الأدبي. وقد كان جوته شديد التعلق بالتجربة الأدبية والروحية مع القرآن وحاول إشراك غيره في متعته حيث قرأ ترجمة شيء من القرآن في حفل حضرته دوقة المدينة، وأعلن أمام الملأ احتفاله بخشوع في الليلة المقدسة التي نزل فيها القرآن، وكان يحاول محاكاة الخط العربي في كتابة القرآن ويحتفظ في مذكراته بعدد من تراجم الآيات التي ألهمته. وقد كان للتوافق في خطوط الإيمان العريضة المشتركة بين ما يؤمن به جوته وما جاء به القرآن -كالتوحيد وبعث الرسل والحساب- دور في خلق انسجام باطني وفني عميق ولد لديه شعورا خاصا بالانتماء حتى قال جوته عن نفسه "لا أكره عندما يقال عني مسلم". بالإضافة إلى تجربته الشخصية مع القرآن تأثر جوته بشكل ملفت بالشاعر الفارسي حافظ الشيرازي واستلهم منه مزيد تعلق وتقديس للقرآن، فقد أعجب جوته بارتكاز تفكير حافظ على أساس متين من القرآن الكريم واستلهم من تجربة حافظ في حفظه للقرآن فاعتنى بحفظ نصوص من العهدين القديم والجديد.

تميزت تجربة جوته بتعامله مع القرآن كنص مقدس وليس مجرد نص أدبي أو وثيقة تأريخية، فقد كان يستشعر عظمته ومصدره السماوي ويشير لذلك بوضوح ، وكان يحمل الكثير من مبادئ القرآن التي تشبع بها بحكم تجربته؛ فقد كان يؤمن بالتوحيد ويرفض التثليث، كما أنه كان كان يشير في مواضع عديدة لأفكار إسلامية في سياق التصديق كالقضاء والقدر والمعراج وحياة الشهداء في البرزخ. وكان يستخدم في أكثر المواضع لفظ الجلالة -الله- بنطقه العربي بدل مقابله في اللغة الألمانية. كما استوقفني تطرقه للجدل الكلامي المشهور بين المسلمين؛ في قضية خلق القرآن وقدمه متخلصا ببراعة من هذه التساؤلات بأن ما يعنيه هو كون القرآن كتاب الكتب. ويعد حضور التناص سمة بارزة في الديوان الشرقي فقد اقتبس جوته عددا من آيات القرآن ومعانيها في قصائده، واتخذ من القصص القرآني سندا لسرديته النصية؛ حيث أكثر من ذكر الشخصيات والأحداث وإسقاطاتها وتقمص عددا من تلك الأدوار متكئا على اطلاع متعمق في القصص القرآني مضيفا إليه صبغة من خلفيته الثقافية والدينية ونصوص التوراة.

إنّ هذا التعلق الواضح والتشرب الملفت بثقافة القرآن في نصوص جوته لا يستلزم كما أشار الكاتب إلى كون ذلك مرجعه إيمان جوته بهذه القضايا التفصيلية وتبنيه الرأي القرآني فيها، بل قد يكون ذلك مجرد انعكاس لتجربة أدبية وعاطفية صادقة عميقة تمازجت في داخله فعبر عنها على هذا النحو.

إنّ القبس القرآني شعلة ألهمت طريق عدد من غير المؤمنين به -فضلا عن المؤمنين- وقادتهم لاكتشاف عوالم من التأمل والجمال والانسجام مع النفس، فالقرآن حقا لا يخلق على كثرة الرد، ولا تفنى عجائبه. وما شهادة غير المؤمنين وإذعانهم أمام عظمة القرآن وانبهارهم ببنائه المحكم إلا دليل واضح على قدسية هذا الكتاب وقابلية تربته الخصبة على استنبات التأملات المتجددة والمشارب المتنوعة. وتأمل ما حواه الديوان الشرقي لجوته وتأثره الشديد الواضح بالقرآن الكريم، يعيد للذاكرة النموذج الشرقي المشابه لإنصاف جوته في التعامل مع القرآن؛ وهو الدكتور شبلي شميل وقصيدته الشهيرة عن القرآن التي قال فيها "إني وإن أك قد كفرت بدينه، هل أكفرن بمحكم الآيات". وختاما إن العودة للبوصلة القرآنية ملاذ للأمة من هذا التشتت والتخبط كما قال جوته: "في كل يوم يزداد التشويش والاضطراب الشديد، أيّها القرآن الكريم، أيتها الطمأنينة الخالدة".

أخبار ذات صلة