هنية الصبحية
يُشير أستاذ الدراسات الدينية بجامعة أبردين روبرت سيجال في مقاله -المنشور بمجلة "التفاهم"- "نظريات الدين" إلى أنَّ عُلماء الدين يرون أنَّ الأفراد بحاجة ضرورية وملحَّة ليكونوا على صلة بالله؛ كَوْن العلاقة بالله تجلب للروح السلام؛ بحيث يستطيع من خلالها إنجاز العديد من اللوازم التي يحتاجها، وقد شملتْ دراسته مجموعة من العناصر تمثَّلت في الأصل والوظيفة لنظريات الدين ورؤية النظريات الاجتماعية العلمية كنظريات علماء الاجتماع الكلاسيكيين والمعاصرين وما بعد الحداثة.
ويُوضِّح سيجال أنَّ نظرية الدين تنطلق من تساؤليْن رئيسيين؛ هما: ما أصول الدين؟ وما وظائفه؟ ويرى أنَّ لفظ الأصل يشير لتاريخ الدين أو بداياته؛ أي أنه يعني ما هي ظروف نشأته وبداياته؟ وحسب الكتابات، فإنَّ نظريات القرن التاسع عشر عُنيت بالأصل وبحثت عن بداية ظهور الدين بمراحله المختلفة، بينما عُنيت نظريات القرن العشرين بوظائف الدين وفاعليته؛ فالدين حسب نشوئه ووظيفته يلبِّي حاجة معينة وضرورية للفرد تعني التأكيد على النتيجة وثبوتها؛ فبعض النظريات تشرح كيف يظهر الدين، وأخرى تشرح كيف يعمل الدين، ومنها نظريات تعالج الأمرين.
وفي الحقيقة أنَّ غالبية نظريات القرن العشرين تَرى أنَّ حقيقة الدين تكمُن خارج نطاق العلوم الاجتماعية، عدا السوسيولوجي بيتر برجر الذي استعمل نظريته لتأكيد حقيقة الدين كونه مختصا في علم الاجتماع واللاهوت، وقد ناقش ذلك في كتابه "شائعة الملائكة"، وفي الجانب الآخر نجد أن معظم فلاسفة القرن التاسع عشر يرون حقيقة الدين من منظور فلسفي وليس من منظور العلوم الاجتماعية؛ وبذلك تم تأسيسه على أصل مستقل؛ وبذلك فهم تجنبوا الوقوع فيما يسميه سيجال "الخطل الوظيفي" الذي يَعنِي أن الأصل أو الوظيفة للدين تُبطل حقيقة الدين، أما السيكولوجي سيجموند فرويد في كتابه "مستقبل وهم"، فقد عُني بأصل ونشأة الأديان وتطورها وتحليلها تحليلا نفسيا من أجل التصدي لحقيقة الدين؛ كونه يرى أن الأديان اعتقادات خاطئة. وفي الجانب الآخر، نجد عالم النفس وليم جيمس استخدم الوظيفة والفعالية في الروحانية الدينية من أجل إثبات حقيقة التصوف الديني دون الوقوع في حبائل الخطل الوظيفي.
ويشير سيجال إلى أن منظري علم الاجتماع يرجعون أصل الدين ووظائفه إلى مسائل غير دينية؛ فالحاجة للدين تتطلب التلبية التي يمكن أن تكون أي شيء؛ بمعنى يمكن أن تكون مادية مثل الطعام والشراب وغير ذلك، ويمكن أن تكون غير مادية؛ أي قد تكون ظاهرة أو غير ظاهرة عند بعض الأفراد، ومن أجل إرضائها، يكون ذلك وسيلة لتحقيق غايات دنيوية. بينما يرى علماء الدراسات الدينية أن أصول الدين ووظائفه هي دينية بحد ذاتها؛ فحاجتهم للدين للتجربة مع الله، والدين لدى علمائه يحضر ليؤمن علاقة مع الله والتي تعد النظرية الرئيسة التي يتبناها علماء الدين المتمثلين في ماكس مولر ورافاييل ويواخييم وغيرهم، وبهذا نلاحظ أنهم يهتمون بالبحث عن الدين وأصوله ويبتعدون عن البحث في مسألة الحقيقة.
كما يقول علماء الدين إن الأفراد بحاجة ضرورية وملحة ليكونوا على صلة بالله؛ كون العلاقة بالله تجلب للروح السلام وتستطيع من خلالها إنجاز العديد من الحاجيات التي يحتاجها الأفراد. وقد ربطت بحاجة الفرد الأساسية من أجل بقائه كحاجته للطعام والشراب، وفي جانب آخر إذا لم توجد تلك العلاقة بالله، فإن الفرد لن يموت وإنما سيصبح وجوده متزعزعا؛ لأنه لا يمكن للدين أن يكون بديلا دنيويا. ويرى علماء الدين أن الحاجة للرب كونية وليست فردية أو خاصة.
كما يذكر سيجال أنَّ لنظرية الدين صيغتيْن كما يراها علماء الدراسات الدينية؛ فالصيغة الأولى يصفها بأن أصل الدين بالفطرة البشرية التي يبحث فيها الفرد عن علاقة بالله ومن روادها مرسيا إلياد. ويحلل سيجال أن هذه الصيغة تجاوزت مسألة وجود الله؛ فالنظرية التزمت فقط بوجود الحاجة إلى الله وليس بوجود الله، وهذا ادعاء علماء الدين أنه بالفعل يلبي الحاجة لذلك فإن الله يجب أن يوجد، ويؤكد ذلك أن علماء الدين لاهوتيون بحيث أن التأكيد يبقى على الاحتياج ذاته. أما الصيغة الثانية فيمثلها مولر والذي يرى أن أصل الدين في التجربة مع الله وليس في الحاجة إلى الله، ويشير سيجال أنه مهما كانت التجربة مع الله ضرورية للكمال الإنساني؛ فإن الدين ليس أساسه في البحث عن الله وإنما في تجربة غير متوقعة للقاء الله. وعليه يرى سيجال أن استنباط أصل الدين من الحاجة إليه يجعل من نظرية علماء الدين قريبة من نظرية علماء الاجتماع وبهذا فإن كليهما يذهب إلى المعنى ذاته.
وعليه، يُؤكد سيجال أن علماء الاجتماع يهتمون بالدين؛ لقدرته على إنتاج آثار سوسيولوجية وأنثربولوجية ونفسية واقتصادية، كما أن بعضهم يرى أن الدين عنصر مهم في إنجاز وظائف أخرى غير دينية؛ وبذلك فنجد أن العلوم الاجتماعية قد تقبل أو ترفض تلك الآثار، كما أن الاجتماعيين يُعجبون بالدين؛ كونه ينتج ثقافة، ويوحد المجتمع ويطور من عقوله واقتصاده؛ وبذلك فإن الدين يعبر عن عامل مستقل يؤثر في أي ظاهرة.
ويُشير سيجال إلى أنَّ الفروق بين علماء الاجتماع الكلاسيكيين والمعاصرين نحو نظريات الدين تكمن في طبيعة الوظائف التي يخدمها الدين، فالكلاسيكيون يعدون وظائف الدين غير دينية على عكس علماء الاجتماع المعاصرين فإنهم يرون أن للأثار والنتائج شأنا دينيا خاصا؛ كونه أحد العوامل الأكثر أهمية وفعالية في إكساب معنى للحياة، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ أهدافه وآثاره غير دينية كما يراها علماء الاجتماع.
وفي الواقع أنَّ النظريات الاجتماعية لا تخطئ فهم الطبيعة الدينية للدين، وإنما تكون هذه الطبيعة بداية البحث وليست نهايته؛ وبذلك فإن التدين يبقى الشغل الشاغل لعلماء الاجتماع، وعليه يشير سيجال إلى ضرورة الاهتمام بمقاربات وتحليلات الاجتماعيين؛ كونهم يحاولون قراءة الدين من الناحية الاجتماعية؛ لأن السوسيولوجيا تأخذ الظواهر غير السوسيولوجية من الدين وتحولها إلى سوسيولوجيات تستطيع أن تكون مسؤولة عنها.
... إنَّ علماء الدين والاجتماع ينظرون إلى أن باحثي ما بعد الحداثة يعدون نظرياتهم عامة وشاملة وعالمية. كما يتخذ علماء ما بعد الحداثة صيغتين هجوميتين للكشف عن أصول نظرية الدين؛ الأولى ترى أنَّ النظرية لا تظهر في زمن معين فقط، وإنما تُصبح مقتصرة على ذلك الزمن. أما الصيغة الهجومية الأخرى، فأحد روادها دريدا؛ فعنده تبدو محدودية النظرية بوجود تيارات متناقضة في النصوص التي تعترض النظرية ذاتها. وجدير بالذكر أن سيجال أوضح أن نقد علماء ما بعد الحداثة لنظريات الدين يظهر جهلا بالفلسفات المعاصرة والعلوم الاجتماعية ونظرية العلوم الطبيعية، كما يؤكد الباحث أن التنظير حول الدين من جانب علماء الدين والاجتماع يعد آمنا من هجمات مفكري ما بعد الحداثة، وتنظير علماء الاجتماع حول الدين -رغم هجمات علماء الدين- يظل الأكثر تداولا.
وبهذا؛ فإنَّ الجدليات التي تدور حول هجران مقولة "الدين والروحانية والديانات العالمية" تظل دون المستوى المطلوب لطرح القضايا والإشكاليات العلمية الحقيقية؛ فتعد هجمات ما بعد الحداثة الأقل إقناعا وجدية.
