يُفسِّر بعض الباحثين الإسلاميين الآيات التي تدعو لنبذ الاختلاف والفرقة على أنها دليلٌ صريحٌ على "وحدة الدين"؛ أي اتباع مِلة واحدة ومُعتقد واحد. ومن بين هؤلاء الباحثين، كتب محمد المنتار مقالًا في مجلة "التفاهم"، بعنوان "وحدة الدين في القرآن الكريم وعند المفسرين الأوائل"، مُحَاوِلا فيه -ومن خلال الاستدلال بآيات من القرآن- البرهنة على أنَّ الناس كانوا يومًا أمَّة واحدة يتبعون دينا واحدا، ولا بد أن يجتمعوا اليوم مجدداً على هذا الدين الواحد، ويقصد بالدين الواحد هنا الإسلام بلا شك.
في كل هذا يعتمد الكاتب على فهمه لآيات القرآن التي تدعو للوحدة ونبذ الفرقة، وكذلك على تفسير الأوائل؛ من أمثال: الطبري ومجاهد والزمخشري...وغيرهم الذين فسروا جميعا آيات الأمة الواحدة على أنها تقرير بأنَّ الأصل في الوضع البشري هو الوحدة، أي وحدة الدين حسب قولهم
بالرغم من نِيَّة الكاتب النبيلة في الدعوة للوحدة ونبذ الفرقة، إلا أنَّ تجاهل المعتقدات والأديان الأخرى ليس بالأمر العقلاني، فحين قال إن جميع الأديان الإبراهيمية حملت في الأصل ذات الرسالة قد يكون محقاً إلى درجة ما، لكنه غفل أمرين مهمين: الأول أن هذه الأديان الإبراهيمية أصبحت اليوم مختلفة عما كانت عليه سابقاً وأكثر تشعباً، ولا أستثني الإسلام بالطبع، أما الأمر الآخر فهو تجاهله التام للديانات الهندية والإيرانية، واختلافها الكبير عن الأديان الإبراهيمية.
وحتى تتَّضح الصورة أكثر، دعونا نقول أولا إنَّ عددَ الأديان المعروفة حالياً يتجاوز العشرة أديان، كلٌّ يتشعب إلى شيع وفرق عديدة، ثم إنَّ هذه الفرق تتشعب بدورها إلى فرق أخرى...إلخ. أما بالنسبة لمحتويات هذه الديانات من قبيل تصوراتها عن الإله، والطقوس الدينية، وطبيعة الحياة بعد الموت، والكود الأخلاقي؛ فهي متفاوتة وأحيانا متعارضة. فمثلاً بالرغم من أنَّ عماد الأديان الإبراهيمية هو الإيمان بوجود خالق للكون، تبقى تصوراتهم عنه مختلفة. حتى في المذاهب التي تتبع دينا واحدا يحدث أن تكون لكلٍّ تصورات خاصة عن الإله وطبيعته. أما بالنسبة لأديان الهند -الهندوسية والبوذية والسيخية- فمعنى الإله لديهم يختلف؛ أتباع الديانة البوذية مثلاً لا يؤمنون بوجود إله، وأتباع الديانة السيخية لديهم تصورات قريبة قليلا من تصورات أتباع الديانات الإبراهيمية، أما الهندوسية فهي خليط من كل شيء.
ويعدُّ الاختلاف في الطقوس والعبادات أكثر الاختلافات وضوحاً، وقد يصعب إيجاد طقوس مشتركة بين أتباع الديانات المختلفة، حتى بين الديانات الإبراهيمية ذات الأصل الواحد. كذلك الحال فيما يخص التصورات عن الحياة بعد الموت، فعلى الرغم من أن جميع الأديان تؤمن بالحياة بعد الموت، إلا أن كلّا منها له معتقداته، فأتباع الديانات الإبراهيمية يؤمنون بالقيامة ويوم الحساب لكنهم يختلفون مجدداً فيما يحدث في يوم الحساب والطريقة التي يحاسب فيها الإله البشر، أما الأديان الهندية فهي تؤمن بشيء مختلف؛ تناسخ الأرواح ودورة الحياة والموت، أي انتقال الروح بعد موت صاحبها لجسد آخر أقل أهمية كجسد طائر أو حيوان. وأخيراً، تتفاوت أهداف أتباع كل ديانة في التزامهم بكود أخلاقي يعتبر القاسم المشترك في كل الأديان؛ فاليهود يقصدون الخلاص، والمسلمون يطلبون الجنة، والهندوس يبحثون عن التحرر من دورة الموت والولادة.
إذن؛ هل يُمكن حقاً تجاهل كل هذه الاختلافات والعودة للمركز مثل سائل متشعب إلى شعب ومسالك صغيرة جدًّا يعود متراجعاً إلى المركز متجاهلاً بذلك طبيعة العالم في ميله إلى الفوضى والاضطراب؟ هذا إذا كان هنالك حقاً مركز مشترك ونقطة التقاء لكل هذه الأديان!! لا يمكنني شخصيًّا أن أتصوَّر بأن شيئا كهذا محتمل الحدوث، فإما أن يظل الوضع على ما هو عليه، أو قد تستمر الأديان في التشعب، وقد تظهر اتجاهات فكرية لها تصورات جديدة ومختلفة حول طبيعة العالم، كالعلومية مثلاً.
يُخبرنا التاريخ بأنه لم تكن هنالك أي فترة تاريخية سيطرتْ فيها حضارة واحدة على العالم، ولم تنجح أي حضارة في إزالة الحضارات الأخرى، بل على العكس يشهد التاريخ أنَّ جميع الصراعات بين الحضارات ومحاولات ضم العالم تحت مظلة واحدة قد فشلت. لذلك؛ فالقول بمبدأ الأمة الواحدة والقول بأن الديانات متشابهة في جوهرها، وأن الاختلافات بينها طفيفة لا يمكن أن يكون عقلانيًّا. يقول رامندرا ناث -صاحب كتاب "أسطورة وحدة الأديان"- إنَّ هذه الفرضيات لا تصدر إلا عن شخص تعوزه المعرفة الكافية حول المعتقدات الأساسية للأديان الأخرى، أو شخص لا يملك موقفا جادا تجاه الأديان، أو شخص يجعله حماس التوفيق بين مختلف الأديان والرغبة في ضمها تحت مظلة واحدة يفقد موضوعيته ويصبح انتقائيًّا في استخدام البيانات الدينية.
.لذلك الأولى الإقرار بالواقع الحي والتركيز على معالجة الاختلافات بين الجماعات الإسلامية، والمحاولة الجادة لإيجاد إطار معياري لإدارة العلاقات بين الاتجاهات المختلفة. علاوة على أن القرآن أقر في أكثر من موضع بأن الاختلاف سنة كونية، كما دعا المسلمين بشكل صريح إلى الإيمان بالأديان الإبراهيمية الأخرى، واحترام معتقدات الآخرين. كما قلت سابقاً رغم أنَّ هدف الإقرار بوحدة الدين نبيل، إلا أن إنتاج أفكار مشوشة وغير منطقية عن طريق تحميل نصوص القرآن دلالات لا تحملها، في محاولة لجمع المتناقضات لا يمكن أن يحقق شيئاً
