وليد العبري
كانت إشكالية إدراك المصالح الكبرى والسعي من أجل تحقيق هذه المصالح، ولا تزال، قابعة في مركز الأزمة الحضارية الشاملة التي تحيط بمجتمعات الأمة الإسلامية منذ انكسارها في مواجهة هيمنة الحضارة الغربية الحديثة قبل نحو قرنين من الزمان. وتجلت هذه الإشكاليبة عمليا في تدني قدرة الوعي الجمعي للأمة على التمييز بحسم بين الرأي الشخصي للحاكم، والرأي العام السواد الأعظم من الأمة. وهذا ما تحدث به الكاتب إبراهيم البيومي غانم في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"؛ إذ ناقش أيضا أن من الأمثلة الأخرى لتدني قدرة الوعي الجمعي للأمة: التمييز في خلط المال الخاص للحاكم بمال الخزينة العامة للدولة، وربط مصير الحاكم في شخصه بمصير الأمة في مجموعها. وغلب الدمج بين هذا وذاك على الإدراك العام في أغلب الأحوال.
كما تجلَّت الإشكالية أيضا على المستوى النظري؛ حيث تنوعت صيغ التعبير عن المعنى المجرد لمفهوم "المصالح الكبرى" بتنوع الخلفيات المعرفية للنخب التي انشغلت بهذه القضية. ولأهمية مفهوم "المصلحة" مع ما يُضاف إليه من نعوت متعددة؛ يكثرُ استعماله في الخطابات المختلفة: الأصولي، والقانوني، والاجتماعي والفلسفي؛ إلا أن كثرة استعماله لا تؤشر على وضوح معناه، كما لا تعني وجود اتفاق بين منتجي تلك الخطابات على مضمون اصطلاحي محدد له.
إنَّ معنى المصالح الكبرى للأمة في سياق هذا الموضوع هو: الأهداف التي تؤمن بها الأمة، أو تضعها لنفسها، وتكون جزءا من مشروع عام قابل للتحقيق. وهذه المصالح ما هو ثابت، ومنها ما هو متغير؛ والمصالح الثابتة هي عبارة عن منظومة القيم الإنسانية/الإسلامية العليا، وأهمها: العدالة، والحرية، والكرامة، والسلم العام.
إنَّ طريق التعرف على هذه المصالح هو النص والعقل معا. أما طرق الوصول إليها بمعنى تحقيقها، فيمر عبر عديد من "مؤسسات التنشئة"، التي تقوم بغرس هذه الثوابت في الوعي العام وفي الضمير الجمعي من خلال: الأسرة، والمسجد، والجماعة الأهلية، والمدرسة، والإعلام، والقانون، والفنون والآداب على مختلف ألوانها.
وأما المصالح المتغيرة، فهي مجموعة الأهداف المادية الكبرى التي تمس حياة السواد الأعظم من أبناء الأمة، وتحظى بإجماع هذا السواد الأعظم على ضرورة تحقيقها في مرحلة زمنية قد لا تتعداها، أو في سياق اجتماعي وسياسي خاص قد لا تتجاوزه. وطرق التعرف عليها متعددة ومتطورة في آن واحد، وأهمها: الإحصاءات العامة، ونتائج قياسات الرأي العام، والاستفتاءات النزيهة، ونتائج البحوث والحوارات والمناقشات الحرة في وسائل التواصل الاجتماعي، وما تقرره أو تشرعه المجالس النيابية الممثلة لإدارة الأمة والمعبرة عنها، وما تتضمنه التقارير والمقاييس الدولية بهذا الخصوص.
وما آل إليه أمر المصلحة العامة من سوء في التقدير، وكوارث وقعت للأمة ولا تزال تقع بسبب انحصار هذا التقدير في يد "ولي الأمر"؛ بحسب تسمية بعض قدماء الأصوليين ومتأخريهم، أو "القائد الملهم"؛ حسب تسمية كثير من الإعلاميين وصناع الرأي المعاصرين، أو في يد قليلة محتكرة للسلطة والثروة؛ حسب التحليل الاقتصادي السياسي الحديث؛ كل هذا يفترض تجديد الاجتهاد في مسألة المصلحة برؤية تستوعب متغيرات الواقع وتواجه تحدياته.
وبتدقيق النظر وإدامته في الواقع المعاصر في مجتمعات الأمة، يتبين بجلاء أن الإسهام الأكبر في تعيين مفهوم "المصلحة العامة" أو "الكبرى" أضحى من اختصاص مؤسسات رسمية وسلطات عامة في الدولة؛ خاصة سلطتها التنفيذية، التي تطغى بقوة الأمر الواقع على بقية السلطات والمؤسسات.
وما عاد للخطاب الشرعي الأصولي أو الفقهي من مستمعين أو متبعين أو متأثرين به من غالب رجال الحكم والسياسة وإدارة الشؤون العامة في الأمة. هذا ما يشهد به واقع الحال، الذي يشهد أيضا بأن "المصلحة" باتت هي المفهوم الأساسي في علم السياسة الوضعي في الحضارة الغربية الطاغية، وأن علم الأخلاق الوضعي والعقلانية الحديثة -كذلك- باتا المرجعية المعرفية أو الفلسفية لتعريف المصلحة، وليس "النص"، ولا "مقاصد الشريعة"، ولا ما هو معتبر، أو ما هو مهدر، أو ما هو خال من هذا ومن ذاك، أو غير ذلك من العدة المفاهيمية التي يستخدمها الأصولي وهو ينظر في علمه الراسخ الموروث؛ بينما الواقع من حوله يجري في مسالك أخرى ولا يدري عنها شيئا له قيمة.
معيار الأخلاق في العقلانية الحديثة هو "المنفعة واللذة"، وليس وراءهما شيء. هذا المعيار الذي لا يفرق بين المصلحة والأخلاق يتناقض مع المعيار الأصولي للمصلحة؛ لأن مما يترتب على ذلك أن اللذة وما يسببها هو "الخير"، وأن الألم وما يسببه هو "الشر"، وأن كل نفع فضيلة وكل ضرر رذيلة.
والمصلحة وحدها بهذا المعنى هي المحرك للسلوك الإنساني كما ذهب إلى ذلك ديتريش فون هولباخ. كما أن اللذة والألم، هما السيدان وحدهما اللذان يحكمان أفعالنا كما يقول بنتام، وهذا كله يتناقض مع المعايير الأصولية للخير والشر والمنفعة واللذة، ومن ثم "المصلحة". وربما هذا ما دفع الرئيس علي عزت بيجوفتش إلى التبرم مما آل إليه الأمر في الفلسفة المعاصرة العامة، وقد وصفها بأنها "أنانية مهذبة". وأكد على أن صياغة "مصلحة مشتركة" بمعايير هذه المرجعية -التي تختزل الأخلاق في المصلحة- لا يمكن أن تكون عامة أو شاملة، لأنها قد تستدعي استغلال أو استبعاد مجموعة أو فئة أو طبقة أو شعب آخر، وفي هذه الحالة تأخذ المصلحة شكلا إجراميا صريحا. وبسبب هذا التحيز ليس ما يمنع ثمة من تأليه "المصلحة العامة"، أو "الدولة" بحسب رأي تولستوي. وهذا كله مما تحرمه المرجعية الإسلامية ولا تجيزه المعايير الأصولية للمصلحة العامة.
ويمكن القول إن المصالح الكبرى للأمة تنقسم إلى قسمين: "المصالح الثابتة"، ورعاية هذه المصالح واجبه وجوبا كليا، وعاما وأبديا. ويشمل هذا القسم: الكرامة، والحرية، والعدالة والسلم العام. وهذه المصالح في مجموعها هي مصالح "معنوية" ابتداءً، وتؤدي إلى مصالح مادية بالتبعية. وقسم "المصالح المتغيرة"، ورعايتها واجبة أيضا وجوبا كليا وعاما، ويتوقف وجوبها على وجودها أو عدمها. ويشمل هذا القسم وفق معطيات واقع الأمة المعاصر: التحرر من الاستعمار، والوحدة، والدفاع المشترك والأمن الجماعي، ومحاربة الفساد والاستبداد والعنف. والطريق الرئيسي لمعرفة هذه المصالح الكبرى المتغيرة هو "الرأي العام" الذي يعبر عنه السواد الأعظم من الأمة، وتمثله مؤسسات قانونية منتخبة، في كل عصر ومصر بوعي وبحرية، إضافة إلى الوسائل الأخرى التي سبقت الإشارة إليها.
ويُمكن القول إنه يتعذرُ على الأمة إدراك مصالحها الكبرى المتغيرة في حال كانت "المصالح الكبرى الثابتة" فيها مهدرة، أو منقوصة بقدر كبير؛ فليس من المتصور أن يجري انتقاص أو انتهاك المصالح الكبرى الثابتة في الكرامة أو العدالة أو الحرية أو السلام العام تحت أي مبرر؛ ثم تتمكن هذه الأمة من وضع أهداف تحقق مصالحها الكبرى المتغيرة في الوقت عينه.
وأخيرا وليس آخراً، وفي ظل تعقيدات الحياة المعاصرة في مجتمعات الأمة، لم يعد يكفي اللجوء إلى القواعد الأصولية العامة التي تتحدث عن مطلق المصلحة، وتمييزها نظريا عن مطلق المفسدة؛ دون الاستعانة بالخبراء المتخصصين في مختلف معارف العصر. ولم يعد يكفي تحليل هؤلاء الخبراء في تحديد هذه المصالح الكبرى دون إشراك السواد الأعظم من المجتمع. ولا ثقة لآراء السواد الأعظم ما لم يكن لديها وعي كافٍ يكون وليد معلومات موثوقة وحوارات حرة حول القضايا العامة والمصالح الكبرى، وأولوياتها، وأفضل البدائل لتحقيقها. ويتعذر الوصول إلى مثل هذا الوعي إلا في مناخ "الحرية".
