العدل والإحسان في مقاربة تجديدية

زهرة السعيدية

يقول فضل الرحمن مالك في كتابه "الإسلام وضرورة التحديث" إن ما يشهده عالم المسلمين من تعثر وانعدام نجاعة الأدوات الفكرية المعتمدة إنما يرجع إلى "الافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن"؛ لذلك كتب أحمد النفير بحثًا بعنوان "العدل والإحسان في القرآن الكريم.. مناهج النظر والتصرف"، في مجلة "التفاهم"، مقترحاً فيه تحقيق قراءة تجديدية للمفاهيم المفتاحية في القرآن باستخدام أدوات فكرية مختلفة أسقطها على مفهومي العدل والإحسان.

وقبل الخوض في مناقشة مفهومي العدل والاحسان في إطار المقاربة التجديدية التي اقترحها الكاتب، دعونا أولاً نلقي نظرة على الطريقة التي فسّر بها المفسرون الأوائل هذين المفهومين، حتى نتمكن من ملاحظة الفرق في التعاطي مع القرآن ومفاهيمه بين التفاسير القديمة والمنهج التجديدي المقترح.

 

العدل والإحسان في المنهج التجزيئي

يرى الطبري أن العدل -في الآية "إن الله يأمر بالعدل والإحسان…"- هو الإنصاف بحق الله في الإقرار بنعمه وحمده عليها، ومن هذا المنطلق فإن الأصنام لا تنفع ولا تعطي لذلك فإن حمدها وعبادتها لابد وأنه جهل غير منصف. بالمختصر يعتقد الطبري أن العدل مرادف لشهادة أن لا إله إلا الله، وأن الإحسان هو الصبر على طاعته فيما أمر ونهى. ولا يختلف تفسير الزمخشري كثيراً عن تفسير سابقه الطبري، فهو يرى أن العدل هو الواجب، والإحسان هو الندب أو التطوع. وكذلك لا يضيف الرازي الشيء الكثير على هذه التفاسير، حيث رأى أن العدل هو شهادة أن لا إله إلا الله والإحسان هو القيام بالفرائض. أما محمد الطاهر عاشور، فقد تبنى ذات المنهج في تفسير العدل والإحسان، لكنه تعمق قليلاً فيه، فقال إن العدل هو وجوب إعطاء الحق لصاحبه، ورأى أن الإحسان يختلف عن العدل في الدرجة فقط فهو "ما كان محبوباً عند المعامل به، ولم يكن لازماً لفاعله"، ويقول إن "أعلى الإحسان ما كان في جانب الله تعالى..". إذن، نلاحظ مرة أخرى أن تفسير عاشور يتوافق مع تفاسير سابقيه، لكنه أكثر تفصيلاً لأنه بهذا التفريق النسبي بين العدل والإحسان "يجعل الآية جامعة لأصول التشريع فيما يتفرع من شعّب نظام المعاملات الاجتماعية".

لا أعتقد شخصياً أن طريقة التفسير هذه -والتي تحاول ربط العدل والإحسان بالعقيدة والشريعة- قاصرة أو محدودة، لأسباب سأذكرها لاحقاً، لكن للكاتب رأي آخر، فهو يرى أن هؤلاء المفسرين قد اقتصروا على المعنى الحرفي واكتفوا باللغة والأثر في تفاسيرهم. حيث يقول إن النماذج التفسيرية القديمة تغلب عليها خاصية التفسير التجزيئي؛ لذلك فهي لم تحدد طبيعة مفردتي العدل والإحسان إذا كانا مصطلحين قرآنيين لهما دلالة محسومة أم إنهما مفهومان مفتوحا الدلالة؟ يجيب الكاتب عن هذا التساؤل من خلال البحث في المفاهيم القرآنية مع أخذه في الاعتبار طبيعة كونها جزءا من معجم قرآني كامل.

 

العدل والإحسان في المنهج التركيبي

يُناقش الكاتب مفهوميْ العدل والإحسان من خلال موقع المفردتين في اللفظ القرآني، ويحاول اقتراح دلالة لهذا الموقع. لنبدأ بعرض ملاحظات الكاتب أولاً ومن ثم تحليلها؛ يلاحظ أولاً أن جذر "ع د ل" له حضور أقل من جذر "ح س ن" في النص القرآني بنسبة عالية جداً. حيث إن جذر "ح س ن" ورد في ١٩٤ آية بمختلف مشتقاته، في المقابل فإن جذر "عدل" ورد في ٢٨ آية فقط. ويلاحظ ثانياً أن الصيغة الاسمية تغلب على مادة "حسن" بشكل لافت خاصة في الآيات المدنية، مثال: "حسنى"، "حسنات"، وتستعمل مع أفعال من قبيل "آتى" و"جاء"، مثل: "من جاء بالحسنة فله خير منها"، وفي هذا دليل على أن الإحسان له طابع تفاعلي بين عالمي الغيب والشهادة. كما تتجسد الصيغة الاسمية لجذر "حسن" أيضاً في اسم الفاعل الذي ورد في ٣٩ آية؛ مثل: "والله يحب المحسنين"، وأيضاً ورد بصيغة المصدر "إحسان". أما بالنسبة للصيغة الفعلية فقد وردت في ٢٤ آية مثل: "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم"، يقول الكاتب إن للصيغ الاسمية دلالة تفيد الثبوت، وهذا ما تثبته اللغة العربية أيضاً؛ لأن "الاسم بأنواعه يدل على ما يثبت به المعنى للشيء بصورة قارة ومؤكدة"، أما الصيغة الفعلية فهي تفيد التدرج. لذلك يستخلص الكاتب أن قيمة الإحسان -اعتماداً على موقعها في النص القرآني- تدل على الثبات والتدرج، لذلك فهي مفهوم منضبط المعنى.

أسقط الكاتب ذات المبدأ على جذر "ع د ل"، واستخلص أن النص القرآني عمل على توسيع دلالة العدل حتى تتجاوز معناها اللغوي الذي يدل على "أداء الحقوق بمساواة"؛ فأصبحت ذات دلالات واسعة تشمل حقوق الله والإنسان وتتشعب إلى المجالات العقدية، والقيمية، والاجتماعية...وغيرها.

يُمكن القول هنا إنَّ الإحسان قيمة أخلاقية مؤسِسة، بينما العدل إجراء يجب اتخاذه وتعيينه لدى المجتمع؛ لذلك فإن الفوارق الكمية بين مفردتي العدل والإحسان تدل على أن النص القرآني أولى القيم الأخلاقية المؤسسة أهمية أكبر حتى تترسخ في نفوس الأفراد وتؤهلهم للجانب التطبيقي (العدل).

ما يُميز المنهج التركيبي هو أنه ينظر للنص القرآني على أنه نص متناسق وكوني؛ حيث جمع المقاربات القديمة والمقاربات الحداثية، ففي حين أن المقاربات القديمة ترى مثلاً أن العدل هو شهادة أن لا إله إلا الله، وترى المقاربة الحديثة أن للعدل دلالة مدنية فقط لا تتعدى كونها تعبيراً عن الانتظام الاجتماعي والسياسي، يأتي المنهج التركيبي ليوضح أن العدل هو هدف شامل في المنظومة القرآنية.

وبالرغم من أنني لا أستطيع إلا أن أتفق مع الكاتب فيما أورده في بحثه حول المنهج التركيبي؛ حيث إنه يبدو لي منهج سليم، لكني لا أستطيع كذلك أن أعتبر المنهج التجزيئي قاصر لسبب بسيط؛ وهو أن هذا المنهج ظهر في وقت كانت الحاجات فيه مختلفة حيث كان المسلم يحاول فهم علاقته مع الله، ما له وما عليه، لكن الآن وبعد أن أصبح الإسلام جزءاً من الحياة الاجتماعية والسياسية وأحياناً الاقتصادية اختلفت الحاجات وظهرت مقاربات تناسب هذه الحاجات. وهذا يحدث كثيراً حتى في الثقافات الأخرى؛ فمثلاً اختلف مفهوم الزواج في أوروبا والولايات المتحدة عما كان عليه قبل 50 سنة، لأن ثقافة المجتمع وتركيبته الديموغرافية اختلفت فأصبح لزاماً تقديم تعريف آخر لهذا المفهوم حتى يتناسب مع كل الهويات الجندرية في المجتمع.

أخبار ذات صلة