ضياء الدين ساردار.. الأنموذج النقدي للمستقبليات الإسلامية

هنية الصبحية

يُقدِّم الباحثُ بوحدة الدراسات المستقبلية محمد مسعد العربي في مقاله "ضياء الدين ساردار... مطارحة الإسلام والمستقبل" -والمنشور بمجلة "التفاهم"- توطئةً علميَّة واضحة لمشروع ساردار الفكري النقدي لبعض المسائل الجدلية في الدراسات المستقبلية للإسلام والتحديات التي تواجهها في ظل الأصولية والانغلاق الفكري. ويشير العربي إلى أنَّ مشروع ساردار في نقد الدراسات المستقبلية يسعى لتحقيق هدفين؛ هما: عصرنة الإسلام ونقد الحضارة الغربية المهيمنة. ويُوضِّح ساردار ضرورة نقد هذه الدراسات من وجهة نظر نقدية وتمييزية؛ بحيث تستطيع أن تفرق بين الحق والباطل بما لا يعني رفض الغرب؛ وإنما التعامل معهم إنسانيًّا من خلال مبدأ الإسلام الذي يدعو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما عصرنة الإسلام، فيعبر عنها ساردار في مشروعه بأنها عملية مستقبلية لن تتم في الحاضر الذي يشهد المزيد من الضعف والركود للعالم الإسلامي، ويرى ضرورة بناء الحضارة الإسلامية من جديد بوضع حجر الأساس المتمثل في مفاهيم الإسلام الأساسية باعتبارها حضارة المستقبل؛ إلا أن الخطر الأقوى أن هذا المستقبل نفسه عرضة للاستعمار من قبل الغرب؛ باعتباره أزمة حقيقية في حقل الدراسات المستقبلية.

 

كما يُوضِّح أنَّ الدراسات المستقبلية ليست علما خالصا، بل هي تعبير عن تداخل العلوم البينية؛ فأي علم له بُنى اجتماعية اصطناعية تتسم بالتعقد والتداخل مع ضرورة ألا نضع أي حدود جامدة ونظريات ثابتة ومصطلحات سرية غامضة؛ لأنَّ الدراسات المستقبلية الراهنة ما هي إلا رؤى كونية غربية، وهي تمثل الأزمة الأساسية التي تواجه العاملين في هذا الحقل، فيذكر ساردار أن ذلك احتلال، وتحريره بمثابة التحدي الأكبر الذي يواجهه العاملون القادمون من خلفيات ثقافية غير غربية؛ فاستعمار المستقبل هو استمرار لاستعمار الحاضر، والحضارة الغربية هي المهيمنة بكل منتجاتها التكنولوجية والعلمية، بما في ذلك أنها تحمل معها تحيزات وأفكارا غربية، وجاء تغريب الدول المستعمرة سابقا تحت ما يسمى بالعولمة التي ألغت جميع الحدود والمسافات؛ حيث قامتْ بتشكيل العالم تحت ثقافة واحدة وهي الثقافة الغربية، فأجبرتهم على الخيار الذي تريده؛ بحيث أصبح المستقبل أسيرا لرؤيتها. فالدراسات المستقبلية تطورت كحركة فكرية واجتماعية تؤكد تعدُّد البدائل المستقبلية؛ إلا أنها أصبحت تحت هيمنة المصالح الغربية، ويرى ساردار أن سيطرة المصالح الاقتصادية الغربية قد نجحت في الاستيلاء على العلم واحتلاله، ويدعم ذلك بقوله إنَّ الهيمنة قد حولت حقل الدراسات المستقبلية إلى أداة وسلعة تحت الشركات الأمريكية باعتبارها -حسب اعتقادهم- الموطن الطبيعي للحقل والمستقبل نفسه، وهذا أخطر ما يصيب استعمار المستقبل؛ كونه ينتزع الحركة والفعل من الثقافات الأخرى.

من هُنا، يذهب العربي لطرح أهم الحلول التي يدعو إليها ساردار في مقاومة الواقع الراهن لتحويل الدراسات المستقبلية إلى حركة خلاقة؛ وهذا يتطلب: ضرورة تغيير الأطر المفاهيمية الغربية المهيمنة وإلا ستكون غربية بواقع المجتمعات غير العربية. كما يُشير إلى أنَّ المستقبل يمثل حالة من الوعي، والوعي لا يكون سليما إلا إذا نبع من عُمق الثقافة الأصلية؛ بحيث يشمل حقل الدراسات المستقبلية التنوع والتعددية؛ أي أن تلك المفاهيم والأدوات المستخدمة تعكس مصالح واهتمامات كل ثقافة.

ويقدِّم ساردار مشروعه الآخر في نقد تراث الإسلام: هيمنة الأصولية الذي يعده أساس المستقبل البديل؛ بحيث يُسهم في صناعة الحضارة العالمية؛ من خلال نقده للتراث الإسلامي الحديث والمعاصر؛ فيوضح أنَّ الفكر الإسلامي يقوم على الإيمان بالتعددية التي تمثل الحالة الطبيعية للوجود البشري. ويشير العربي إلى أنَّ هنالك العديد من الروافد الفكرية الثرية التي أسهمت في تكوين فكر ساردار النقدي، فيصف الإسلام برؤية كونية عبقرية جسد فيها كل القيم الإنسانية؛ ومن بينها أنَّ الإسلام نظام للمعرفة والوجود والفعل، ويعني الخضوع والسلام الكامل الذي يتحقق من خلال مفاهيم وقيم جسدت في القرآن والسنة...إلخ، وعليه يشير الباحث إلى أن رؤية ساردار تحاول أن تضع القيم الإسلامية محل الفعل والحركة؛ بحيث يتحول إلى حضارة عالمية قائمة على الحكم التشاركي والعدالة الاجتماعية والمعرفة، وإنتاج المعرفة الفلسفية والتكنولوجية العلمية والملتزمة بعبادة الله، وتكون ساعية إلى إعادة النظر في مفردات العالم المعاصر من الحداثة وما بعدها والرأسمالية ونظامها؛ لأنها تحسن من حياة الإنسانية جمعاء.

ويتوقَّع ساردار أن إعادة بناء الإسلام ستكون عملية مؤلمة وتدريجية؛ لأنها ستقوم بإعادة بناء كل الجوانب الحياتية والتي تتطلب شجاعة فكرية، وستكون عبئا على الأجيال القادمة، وإما تنجح هذه العملية أو تخفق. كما يرى أن أزمة الحضارة الإسلامية ابتدأت حينما أغلق الاجتهاد الفكري والفقهي في الإسلام الذي نتج عنه جمود فكري، وقد سماه بالكوارث الميتافيزيقية الثلاث في تاريخ الفكر الإسلامي؛ وهي: تصعيد الشريعة إلى مرتبة المقدس الإلهي، وإلغاء السلطة عن المؤمنين، ومساواة الإسلام بالدولة. ويؤكد على رؤيته بقوله أنه لا يوجد شيء مقدس في الشريعة؛ حيث إنَّ الشيء الوحيد المقدس في الإسلام هو القرآن. أما الشريعة، فهي بناء إنساني ومحاولة لفهم الإرادة الإلهية في سياقات مختلفة، إضافة إلى أن الجزء الأكبر من الشريعة فقه، والفقه له تغيراته الزمانية والتاريخية، والفقهاء لم يكن لديهم أية سلطة مجتمعية؛ فاجتهاداتهم ونظرياتهم لا يمكن تعديلها إضافة إلى تطوُّر الفقه الإسلامي على قاعدة الانقسامات السياسية، وهذا ما يؤدي إلى خطر آخر؛ إذ تسلب السلطة عن المؤمنين طالما أن الشريعة أعطيت التقديس فلا مناص للتفكير والنقد، وبذلك يصبح المؤمن مجرد متلقٍ لا جدوى من بحثه واستقصائه.

من هنا، يُؤكد ساردار أن الشريعة ليست إلا مبادئ وقيما تسترشد بها المجتمعات الإسلامية كونها منهج حياة لحل المشكلات، وليست قانونا جبريا يلتزم به، مشيرا إلى أن ذلك يتطلب من المؤمنين أن يبذلوا المزيد من الجهد، وأن يعيدوا تأويل القرآن باستمرار.

كما يُشير ساردار إلى الخطر الأخير الذي يتمثل في مساواة الإسلام بالدولة الذي أطلق عليه جماعات الإسلام السياسي؛ وبذلك يرى أن الإسلام يختزل على هيئة أيديولوجيا بحيث تكون هذه الأيديولوجيا داخل بنية الدولة القومية من أجل تحويلها إلى دولة إسلامية. كما أنها تسعى لجعل الدولة المتحكمة في كل شيء باسم الدين، وتبني برنامجها السياسي وتجعل كل فعل سياسي إسلاميًّا كما هو في إيران، وهذه الحالة قد وصلت تدريجيا إلى العالم الإسلامي ومجتمعاته وشكلت حالة من العبثية والتدهور.

وعليه، يُؤكد ساردار أن مستقبل الإسلام يعتمد على قدرة المسلمين على علاج خطر الأصولية والانغلاق الفكري؛ من خلال تجديد الأصول التي يرتكز عليها الإسلام، وهذا التجديد لا يعني رفض التراث والتقليد؛ فهو يؤكد أنَّه تقليدي نقدي لا يقبلها بشكلها السابق، وإنما يجب أن تبتدع وتخترع باستمرار فهي في الشريعة كبناء تاريخي إنساني. أما القرآن، فيجسد الشيء الوحيد المقدس باستمرارية الإسلام، إلا أن تأويلاته يجب أن تجدد حسب المقتضى الزمني لتلك الفترة.

ويؤكد العربي أنَّ أفكار ساردار قامت على روح تفاؤلية مؤمنة بالطاقات العظيمة التي يوفرها الإسلام للعمل، وبقدرة الفرد على تحديد مصيره بالعمل الجماعي الواعي بالحاضر والمتطلع للمستقبل، ويُمكن تحقيق ذلك كله من خلال تبني الإسلام كمنهج حياة عظيم يتناسب مع الأزمنة والعصور.

أخبار ذات صلة