تجديد شرعية الدولة الوطنية العربية

زهرة السعيدية

يناقش محمد الحداد في مقاله "مشكلات الدولة الوطنية في العالم العربي وإمكانيات التجديد" التحديات التي تواجه الدولة الوطنية في الوطن العربي منذ سقوط الدولة العثمانية إلى اليوم، ويقترح تجديد شرعيتها من خلال إعادة تأويل التاريخ، ومن ثم تعميق المواطنة وتحقيق أكبر قدر من العدالة بين سكانها.

مفهوم الدولة الوطنية وتاريخها

قبل الحديث عن تحديات ومشكلات الدولة الوطنية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دعونا نعرّف الدولة الوطنية ونعرج على أركيولوجيا نشأة شرعيتها. أولا الدولة الوطنية هي تنظيم له حدود جغرافية يعيش في كنفه جمع من البشر يشتركون في الهوية والثقافة، ولهذا التنظيم تأثير كبير على شكل الحياة وعلى الطريقة التي يعبر كل فرد، يعيش في هذه الدولة، عن نفسه، حيث يتحدد من  خلالها أي لغة يتحدث بها الأفراد وأي قوانين يتبعون، وأي شكل من العلاقات تجمعهم. وقد بدأ نظام الدولة الوطنية يتخذ شكلا محدداً في النهضة الأوروبية بعد معاهدة وستفالي في سنة ١٦٤٨، بعد أن كانت أوروبا قد ضاقت ذرعاً من الحروب الدينية الداخلية والخارجية. الخارجية متشكلة في تهديدات الامبراطورية العثمانية الإسلامية وزحفها باتجاه شرق أوروبا بعد أن سيطرت على جنوبها الشرقي. والداخلية تشكلت في الانقسامات المذهبية في الديانة المسيحية والتي أدت إلى انشقاق المسيحية مبدئياً إلى الكاثوليكية والبروتستانتية منطلقة من ذلك إلى انقسامات أخرى . كل هذه الأحداث أضعفت أوروبا وأدخلتها في حروب عديدة أشهرها حرب الثلاثين عاما. أمام هذه التحديات كان لدى أوروبا خياران، الأول تجاهل التعددية الدينية واستعادة وحدة المسيحيين، وجسده الحاكم الإسباني شارلكان الذي حاول إحياء الامبراطورية الرومانية. والثاني تجسد في صلح أوغسبورغ وأقرّ بانقسام أوروبا إلى مقاطعات تتخذ بعضها الكاثوليكية وأخرى البروتستانتية مذاهباً لها، اعتماداً على مذهب أميرها.

بدأت فكرة السيادة بهذه الطريقة متجسدة في الملوك والأمراء، ولكنها تحولت بعد قرون  لتتجسد في الشعوب. واتخذت شكلها النهائي بعد أن وُقعت معاهدة وستفالي التي أنهت الحروب الدينية نهائياً في أوروبا، وانقسمت أوروبا في حينها إلى دويلات ومقاطعات محددة العلاقات بينها بمقتضى مبادئ وستفالي، فساد السلم بين سكانها، وبدأت أوروبا تشهد نهضة علمية وفنية وأدبية وسيطر الأوروبيون على العالم مجدداً، بالعلم والتقنية هذه المرة وليس بالسيف، وألزمت جميع منافسيها على حذو حذوها، فقلدها اليابانيون والصينيون والأمريكان بل وتفوقوا عليهم، وهكذا كانت فاتحة نظام الدول الوطنية.

 

تعثر الدولة الوطنية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

يقول الكاتب إن الوطن العربي قد مرّ بعدة مشاكل منعته من دخول نظام الدولة الوطنية رغم محاولاته المتواضعة، حيث إنه وقع تحت وطأة مشكلتين: الأولى عقدة الخلافة، فبعد أن سقطت الامبراطورية العثمانية ألغى أتاتورك الخلافة و تقلصت مظاهر التدين، ومن يومها ظهرت هذه العقدة، حيث أخذت بعض الحركات في الدعوة إلى استعادة أمجاد الأمة الإسلامية ولم شمل جميع الدول الإسلامية تحت مظلة الخلافة مجدداً. والثانية عقدة "سايكس-بيكو"، والتي كان أساسها المعاهدة السرية بين فرنسا وإنجلترا في اقتسام أجزاء من الوطن العربي بينهما. وبعكس معاهدة وستفالي التي لا يمكن لأحد أن ينكر آثارها الإيجابية، كان للمعاهدة الثانية آثار سلبية و تدميرية أدت إلى تعميق شعور العرب بالإهانة جراء وقوعهم في وصاية الغير.

إلا أن الكاتب يعزو المشكلة الأكبر إلى الخلل في مناقشة مشكلات الدولة الوطنية، حيث يقول إن النقاش ظل محصوراً في مقاربتين، الأولى تربط الانسداد السياسي للدول العربية بالعامل الديني، والثانية بالاستعمار ومشاريع التقسيم، ويرفض الكاتب تقريباً كلا المقاربتين؛ لأن كليهما لا يسهم في بناء وعي سياسي  تجديدي. ويقترح بديلا لتلك المقاربتين مقاربة أخرى ترتكز على تجديد الشرعية بإعادة تأويل التاريخ.

 

تجديد شرعية الدولة الوطنية

يقول الكاتب إنه لا بد من الخروج من الوضع التأويلي المتعارف عليه ( أي: أن محاولات العالم العربي لدخول نظام الدول الوطنية همشت بسبب الاستعمار وأحداث أخرى)،  وإعادة طرح الموضوع بصورة أكثر عقلانية. لا بد أولاً من استبعاد القراءة التاريخية القائمة على المؤامرة التي ترتكز عليها الخطابات القومية، والتي تعد كل هذه الأحداث مجرد مؤامرة ضد العروبة والاسلام لأنها لا توفر أي طرح موضوعي، يمكن دحضها بتجربة فكرية بسيطة: إذا طبقنا ذات الفكرة على المسيحية، فإن الامبراطورية العثمانية كانت كذلك مؤامرة ضد المسيحية. من الواضح إذن أن هذا النوع من القراءات التحليلية ما هي إلا وقود للتطرف ونظرية صراع الحضارات. ويقترح الكاتب أن ننسف هذه المغالطة بالمعرفة التاريخية النقدية، وإلا سيظل الوطن العربي عاجزاً عن إقامة الدولة الوطنية؛ لأن أي محاولة جديدة لتجديد شرعية الدولة الوطنية ستعد جزءاً من المؤامرة ضد الوحدة الإسلامية، وبدل اتخاذ أي أزمة داخلية فرصة لمراجعة شرعية الدولة، ستكون مادة جيدة لتحريك عواطف الجماهير وإبقائها في الصفوف المتأخرة للحضارة.

وعوضاً عن تغيير الجانب التشريعي لا بد من نقد الثقافة السائدة جذرياً أولاً، لأن الأنظمة الديموقراطية العالمية التي أثبتت نجاحها في بلدان ذات ثقافات مختلفة لا يعني بالضرورة أنها ستنجح في البلدان العربية . وليس أكبر مثالاً على ذلك مما حدث في العراق ولبنان، لذلك لا ينبغي أن يقتصر الأمر على مراجعة الدساتير والتشريعات والقوانين، بل يجب أولاً تحقيق أكبر قدر من العدالة التي  تشعر الجميع بأنهم ينتمون لهذه الدولة، لأن إجحاف الأقليات سيغذي لديهم الشعور بالنقمة، وهذه كانت مبدئياً غلطة الدول العربية، فالبرغم من أنها أدارت الشأن العام بالأدوات العصرية إلا أنها لم توفر هذه الأدوات بإنصاف بين الأفراد والجماعات. والأنجع من ذلك كله هو حدوث ثورة ثقافية تخلّص الجميع من أشباح الماضي؛ لأن الأمور اختلفت تماماً عما كانت عليه خلال القرون الثلاثة الماضية، والدول السائدة اليوم على المسرح الدولي، دول حديثة استفادت من تجارب الماضي لكنها لم تعلق فيه.

أخبار ذات صلة