نوف السعيدي
يُجادل كارميلو دوتولو في مقاله المعنون بـ"التعدد الديني والحقيقة من منظور كاثوليكي.. هل يقبل الدين التعدد حقا؟" حول قبول الدين المسيحي للتعددية الدينية، ويناقش العقبات العقائدية التي تقف في طريق التعدد؛ وأهمها: الحقيقة الإلهية، ومصدر الحقيقة الإلهية. وتُمثل هذه الدعوات للتعدد الديني محاولة لإحلال التناغم محل العداء في لقاء الديانات.
فما هي التعددية الدينية؟ لا تعني التعددية الدينية قبول الأديان المختلفة فحسب، بل الاعتقاد بتساويها؛ فبينما تقبل معظم الأديان بأديان أخرى إلا أنه قبول مترفع ينطوي ضمنيا على التصديق بأن هناك دينا خلاصا واحدا. تؤمن التعددية بتعدد طرق الوصول إلى الله، وتنظر لدين ما على أنه مجرد إحدى الطرق المحتملة للحقيقة. لا يفوتنا هنا ملاحظة الشبه الكبير بين مفهوم تعدد الأديان، والتصوف في الإسلام الذي يعتقد بتعدد الطرق بتعدد الخلائق.
إنَّ فكرة التعددية نشأت في أوروبا خلال وقت كان يسوده الشك واللايقين تجاه كل الأمور بما فيها العلم، خصوصا مع فيزياء الكم ومبدأ اللايقين لهايزنبرج الذي يستعيض عن الإجابات القاطعة بإجابات احتمالية، ونسبية آينشتاين التي وضعت لفيزياء نيوتن الكلاسيكية إطارا مرجعيا تفشل في أن تصح خارجه، وعليه فقد شهد الناس تقويضا لمبادئ اعتبروها لفترة طويلة حقائق لا تمس. ومع فقدان الثقة بالمنطق العلمي الذي بنيت عليه الحقائق العلمية، وإحلال الحقائق الموضوعية، محل الحقائق المطلقة. إذن، فقد كانت هذه هي بواعث ظهور التعددية، نعني أن الشك في وجود حقيقة مطلقة واللايقين في تصوراتنا عن العالم، قد تكون قابلة للتطبيق على الأديان أيضا. أما الحاجة التي يحققها ذلك، فهي التمهيد للنظام العلماني، ونقض الدول الدينية. بمعنى أنك تنتقل من الدولة المسيحية التي تؤمن بكونها حاملة الدين الحق، والمتسامحة مع الأديان الأخرى، إلى دولة لادينية تقبل الأديان بالتساوي. يعبر د. محروس بسيوني عن غاية التعددية الدينية بالقول إن هدفها هو "تطويع الأديان حتى لا تقف في وجه العلمانية". إذن، يُمكننا أن ننظر إلى التعددية باعتبارها النقلة الضرورية من التسامح، والمؤدية للعلمانية؛ ذلك أنَّ معظم الأديان، خصوصا حين تكون دين الأغلبية -وإن قبلت بأن يمارس المنتمون لأديان أخرى طقوسهم- فإنها ترغب بالسيادة بمعنى ما.
تذهب التعددية إلى ما هو أبعد من الاتفاق بشأن القيم أو بعض الأخلاق، أو المنظور المشترك تجاه بعض القضايا. تتَّفق كثير من الأديان على أهمية مساعدة الإنسان لأخيه الإنسان، إلا أنَّ البحث عن أوجه تشابه كهذه ليس ما تعنى به التعددية، بل إنها تُعنى بالبحث في الحقائق المتعارضة بشأن القضايا الجوهرية والدعوة لقبولها معا، باعتبارها جميعا محاولات -لا يتفوق فيها أحد على أحد- للوصول إلى الحقيقة الإلهية.
التفريق بين التعددية والتسامح
يكمُن الفرق بين التعددية والتسامح تحديدا في موضوع "التساوي". إنَّ التعددية لا تسعى لقبول الدين الآخر فقط بل إلى رؤيته على قدم المساواة، وتقدره في انفتاح كامل باعتباره اختلافًا مرغوبًا. غالبا ما يسهل على الأديان القبول بالتسامح (بل وتعتبره جزءًا من قيمها التي تثبتها بالنصوص المقدسة)، لكنها ترفض التعددية لأنها غالبا ما تتعارض بشكل صريح مع الكتب المقدسة. فوق كل هذا فإن "كل دين هو تعبير عن رغبة البشر في إثبات الذات، وليس الانفتاح" كما يرى كارل بارث، وهذه هي الإشكاليات الأهم التي تقف بوجه التعددية الدينية.
التعددية من المنظور المسيحي والإسلامي
كما قلنا، فإن الأديان بطبيعتها لا تميل لهذا المفهوم، وأن الدول الدينية لن تلجأ له على الأغلب ما لم تجد نفسها مضطرة لذلك، أي بعد أن تمر بتجارب عنف طائفية تلزمها بتبني حلول أكثر جدة.
وبالنسبة للمسيحية -حسب المقال- فإنَّ "تعددية الأديان تفكك القناعة السائدة بالكونية التي لطالما زعمتها المسيحية"، يشاركها الإسلام واليهودية أيضا في ذلك. يجادل علماء اللاهوت بالقدرة على استغلال قيم المسيحية لتحقيق الخلاص للبشرية. لكن هذا هو الرأي الحذر. أما إذا أتينا لصلب الموضوع، فإن الإيمان بوجود أديان صحيحة متعددة، فهو أمر يرفضه الكتاب المقدس. وفوق هذا فإن الأديان التي تسود في دول والتي لم تخض تجارب قوية تسائل بعنف علاقتها بالسياسة، وتحدد أدوارها ووظائفها بوضوح، فإن المنضوين تحت مثل هذه النظم يرغبون غالبا بأن يكون دينهم دين التشريع في الدولة.
علينا الاتفاق على أنَّ التعددية الدينية لا تتفق مع تعاليم الكتب المقدسة، وهذا ينطبق على كلا الديانتين. وإن كنا سنعتبرها أمرا ضروريا ونسعى لترسيخها -رغم ذلك- فهذا سيعني استعدادنا لأن نتبنى تأويلا معاصرا وجديدا تماما. يرى الكثير من المنظرين الإسلاميين أن التعددية خطر على الإسلام، لما فيها من مس بجوهر الدين ومكانته. لكنَّ علماء اللاهوت الأكثر انفتاحا، والذي استطاعوا من قبل تغيير مسائل فقهية وعقيدية تم الإجماع عليها لعصور، يرون أن الطريق إلى التعددية هو باختبار مضامين الديانات الأخرى بما في ذلك معناها، ووظيفتها، وقيمتها، ومساهمتها في خلاص الإنسانية. يجب أن تقارن هذه المضامين مع باقي الأديان؛ سعيا للحفاظ على هوية الدين بشكل لا يتعارض مع توحيده وضمه للأديان الأخرى، لا بالبحث فيما تتفق عليه الأديان بل فيما تختلف فيه وما الذي يصنع خصوصيتها.
لا أرى أن تبني خطابا كهذا مهم إلا إذا وصلنا للمرحلة التي نقرر فيها تبني العلمانية كحل؛ إذ إنه يمكن تحقيق درجة من التعايش السلمي دون مفاهيم التعددية. إلا أن مفهوما كهذا يمكن أن يُسهم بلا شك في رفع مستوى الحريات الدينية، واحترام ممارسة الطقوس والشعائر في الفضاء المخصص، وستعني حصول المواطنين على فرص أكثر عدالة، ولن تسمح بأن يستفيد أحد من امتيازات بسبب الخلفية أو الدين الذين ينتمون له.
الأمر الذي ينطبق على دعوات التسامح، ينطبق على التعددية أيضا.. لابد للوصول إليهما من خلال إعادة قراءة النصوص الدينية قراءة عصرية تسعى للتناغم والانسجام عِوضا عن إثبات التفوق، والتعالي المتعصِّب.
