زهرة السعيدية
يعتبر الكثير من المراقبين أن المشكلة الأساسية في العلاقة المتوترة والشائكة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية هي عجز الطرفين عن فهم كل منهم للآخر، وقد تبنَّى محمد السماك هذه الفكرة في مقاله "التعارف في الإسلام بين الغاية والمنهج"، وحاجج فيه من منظور قرآني على أن الإسلام من جهته متقبل للآخر وداعٍ للحوار، ويبقى السبب الأساسي في التوتر بين الشرق والغرب حسب رأيه، هو عجز الغرب عن فهم الإسلام بالشكل السليم، لكنه غفل عن عوامل أخرى أكثر جدية وتعقيداً، سأطرحها في نهاية المقال.
ويحاول الكاتب معالجة موضوع العلاقة الشائكة بين الإسلام والحضارات الأخرى، مستهلاً بحثه بأدلة من القرآن على عالمية الرسالة الاسلامية، فيقول إنَّ العديد من الإشارات في القرآن تكشف عن ملامح التسامح والتعددية في الاسلام، مثل الإشارة إلى أن الله خلق الناس جميعاً من نفس واحدة، وإشارة أخرى إلى أن جميع الناس متساوون في الكرامة والحقوق، وإشارة ثالثة تدل على أن النبي محمد بعث "رحمة للعالمين"، ويرى السماك أن حكمة الله شاءت أن يكون الناس أمماً وشعوباً مختلفة حتى يتسنى لهم التعارف والتدافع، ومن ثم الوصول إلى الوحدة الإنسانية.
الاختلاف والتعارف في القرآن
العالم متنوِّع جدًّا ومتعدِّد ليس فيما يخص الأعراق فقط، وإنما في المعتقدات والثقافات أيضاً؛ لدرجة أنَّ الثقافات والإثنيات نفسها غير متجانسة، ومن الواضح جدًّا أن القرآن قد قدَّر هذا التنوع والاختلاف بين سائر الأعراق والثقافات والمعتقدات؛ فقد دأب على تعليم أتباعه أن البشر -وإن كانوا مختلفين- فهم متساوون جميعاً في الكرامة والحقوق، وأن الله جعلهم على هذا النحو بحسب ما جاء في الآيتين: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ"، و"وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا"، حتى يؤسس لقيمة التعارف التي تحدث عادة مع الآخر، عن طريق الاعتراف به وباختلافة والتفاعل معه "دونما تبعية وإلحاق".
ولا يرى الكاتب أن علاقة الإسلام بالأديان الأخرى علاقة تسامحية وإنما إيمانية؛ حيث إنَّ إيمان المسلم لا يكتمل إلا بالإيمان بالرسالات الأخرى وأنبيائها. ولا تشبه العلاقة التسامحية العلاقة الإيمانية بأي شكل، فالأولى علاقة فوقية تستعلي على الآخر وتعتبره على خطأ، لكنها تتسامح معه. أما الأخرى فهي علاقة ندية تقوم على الاعتراف بالحق والاحترام المتبادل. ثم إنَّ هاتين القاعدتين -الاختلاف والتعارف- تؤسسان لقيمة أكبر وهي الوحدة الإنسانية التي لا تطمس التعدد، وإنما تسخره من أجل تبادل الخبرات والمنافع، وتُسهم في صنع مجتمع إنساني متحضر.
يقول الكاتب إنَّ وضع منهجية للتعارف أصبح حاجة إنسانية ماسة في ضوء أحداث القرن الواحد والعشرين المتمثلة في:
1- تحول القضايا الوطنية إلى قضايا عالمية.
2- لم تعد كل دولة منكفئة على ذاتها؛ فقد أصبحت القوانين الدولية تلعب دوراً أساسياً فيما يتعلق بالقضايا المحلية.
3- انحسار التنوع الثقافي بسبب العولمة، وشعور الثقافات المطموسة بالاختناق بسبب هيمنة الثقافات المتقدمة على العالم.
الاختلاف والتعارف في الواقع
ويرى الكاتب أنَّ أساس التوتر بين الإسلام والغرب هي "لا معرفة" الغرب بالدين الإسلامي، مُدللاً على ذلك باقتباسات عديدة لمؤرخين ورهبان وسياسيين وصفوا الإسلام بأنه معاد وعنيف، وحذروا من الأخطار التي قد يشكلها. ولكني شخصيًّا أرى أن الكاتب لم يفلح في وضع تحليل جاد لهذه المعضلة. فعلى الرغم من اعتبار الصراع بين الطرفين على المستوى الشعبي ذا جذور دينية، إلا أنَّ الجميع متفق على أن أساس المشكلة سياسي بالضرورة.
رُبما أصبحت المشكلة في العلاقة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية اليوم بطريقة ما تجسيدا لعجز الطرفين عن التفاهم المتبادل، بسبب صورة الإسلام المخيفة واعتبار الغرب المسلمين بأنهم مجموعة همج شاءت الأقدار أن يتواجدوا في المنطقة التي تملك احتياطات هائلة من النفط في العالم، من جهة، ومن جهة أخرى خوف المسلمين من استهداف الغرب لدينهم وعدائهم ضده. يقول جورج ماكلين في ورقته البحثية "الثقافتان الإسلامية والمسيحية: صدام أم حوار" إنه في كثير من الأحيان يتم تفسير الاختلاف بين الطرفين من خلال المقارنة بين مجتمع حديث منفتح على التنمية والتطور والإنتاجية، وآخر رجعي متعثر وغير منتج، وليزداد الطين بلة فإنَّ المشروعات الهجومية والأفعال المتطرفة التي ارتبطت بطريقة ما بالإسلام والمسلمين مثل أحداث 11 سبتمبر... وغيرها قد أعطت نوعاً من المصداقية للنظريات التي تصف الإسلام بأنه أيديولوجية تؤسس للتعصب والإرهاب. علاوة على ذلك، فإن بعض المجتمعات الإسلامية بقيت لفترات متأخرة متمسكة بالأصولية فيما يخص مختلف جوانب الحياة، وهذا يتعارض ضمنيًّا مع مبادئ المجتمع المدني السائد في الغرب. لكن بالرغم من كل هذا وبالرغم من ازدواجية المسلمين واختلال معاييرهم عند معالجتهم للظواهر الاجتماعية، يبقى من العصي إنكار حقيقة أن إنتاج صور مشوهة للإسلام هو تبرير للسياسات الإمبريالية التي مارست وما زالت تمارس في المنطقة التي تمتلك موارد طبيعية وبشرية هائلة.
لا بد من القول هنا إنَّ التمسك الأعمى بأي أيديولوجية قد ينتج "تعصبا وتصلبا فكريا"؛ فمع أن القرآن يزخر بالإشارات إلى ضرورة قبول التعددية والتسامح والحوار مع الآخر المختلف وما إلى ذلك، إلا أنَّ هناك كثيرا من المجموعات المسلمة نجحت في تطوير عقائد متطرفة لا تقصي الآخر فقط وإنما تعدمه. وهذا ليس حكراً على الإسلام؛ فالكثير من تابعي الأيديولوجيات الأخرى قد طوروا بطريقة مشابهة جماعات متطرفة تتعصب ضد الآخر، وليس أقرب مثالاً على ذلك من مذبحة 19 مارس.
ما نحتاجه اليوم ليس لوم الآخر على المشكلة الحاصلة وتبرئة أنفسنا بحجة آيات القرآن التي تدعو للتسامح والحوار، وإنما تحليل جاد للعوامل التي أنتجت هذا الصدام بين الثقافتين، واتخاذ مواقف جدية لا تخضع لأي نظرية عامة، مواقف تناسب الظروف السائدة في الأيام الحالية. ولابد من التخلص من الغرور والبدء في نقد نظام الأفكار المسبقة، واتخاذ مواقف مضادة لها إذا لزم الزمر.
