علاقة التأويل بالسياق ودوره في بناء المعنى

وليد العبري

إنَّ كل معنيّ بالبحث في الدلالة وتقصي صحيح المعاني لا شك أنَّه يعرف للسياق قدره وأهميته البالغة -والحاسمة في كثيرٍ من الأحيان – في تذليل العقبات والصعاب أمام الوصول إلى المعنى وصحيحه. هذه الأهمية نجد لعلماء الإسلام – بمُختلف تخصصاتهم – وعياً مُبكرًا بها، يقول تمام حسان: "لقد كان عُلماء الأمة الإسلامية عند اعترافهم بفكرة السياق – بشقيه المقالي والمقامي – متقدمين بأكثر من ألف سنة على زمانهم".

وهذا ما ناقشه الباحث محمد شتوان في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم" إذ أضاف أنّ علماء اللغة الغربيين وإن كان اهتمامهم بالسياق قد بدأ متأخرًا، فقد احتفلوا به واهتموا به أيما اهتمام، إلى درجة صياغة نظرية مُتكاملة تُعنى به، عرفت بالنظرية السياقية. فما هو مفهوم السياق في الفكر اللغوي العربي، وما أنواعه؟ وكيف يؤدي وظيفته؟ وما هو مفهوم السياق في الفكر الغربي، وكيف يؤدي وظيفته؟.

عند الحديث عن مفهوم السياق، سنبدأ بتعريف السياق في اللغة، إذ جرت العادة أنَّ الباحثين إذا ما أرادوا البحث عن معنى لفظ ما أن يفزعوا إلى أمَّهات المعاجم اللغوية والاصطلاحية التي كانت ولا تزال المرجع في معرفة معاني الألفاظ العربية ودلالات استعمالها.

ومن أجل تحديد المعنى المعجمي للفظة "السياق" نعرج على أهم تلك المعاجم، ونبدأ بمقاييس ابن فارس، الذي عرف عنه اهتمامه بالمأخذ الحسي للمصطلح، والمدار الذي يدور عليه. قال: "السين والواو والقاف أصل واحد، وهو حذو الشيء، يقال: ساقه يسوق سوقاً، والسيقة: ما استيق من الدواب، والجمع أسواق، والساق للإنسان وغيره، والجمع سوق، وإنما سميت بذلك؛ لأنَّ الماشي ينساق عليها".

أما لسان ابن منظور، وهو المعجم الذي ينتظم أكثر المعاجم التي سبقته ويحوي موادها الزاخرة، فلم يضف الكثير على ابن فارس؛ قال: "تقول العرب: ساق الإبل سوقا وسياقا إذا سردها سردا وأوردها مكانا، وتقول العرب: تساوقت الماشية، أي تتابعت في السير".

يتبين من خلال المعاني اللغوية التي أوردها أصحاب المعاجم السابقة لمادة السياق أنها تدور حول معاني التسلسل والإيراد ومجيء الشيء متتابعًا، وفي كل ذلك يبرز معنى الانتظام والترابط.

وأما عند الحديث عن مفهوم السياق عند القدامى، فقد تقاسمت علوم كثيرة الاهتمام بالسياق واعتماده في عملية الفهم والتحليل، وتوظيفه في البيان والإرشاد إلى المعنى القويم، ولعل أوَّل وأبرز من اشتغل بالسياق كان عُلماء التفسير والأصول، ثم جاء من بعدهم علماء اللغة والبلاغة، ومع ذلك لا نجد عند هؤلاء تعريفاً واضحًا ومحددا لهذا المصطلح، باستثناء إشارات مُتناثرة هنا وهناك، وكذلك الشأن في كتب الاصطلاح.

وقد تتبع الدكتور ردة الله الطلحي استعمال هذا المصطلح في التراث العربي فوجد أن مفهوم السياق في التراث يمكن حصره في النقاط الثلاث التالية:

  • الأولى: أن السياق هو الغرض؛ أي مقصود المتكلم من إيراد الكلام، وهو واحد من المفاهيم التي عُبر بلفظ السياق (السوق) عنها.
  • الثانية: أن السياق هو الظروف والمواقف والأحداث التي ورد فيها النص أو نزل أو قيل بشأنها، وأوضح ما عبر به عن هذا المفهوم لفظا الحال والمقام.
  • الثالثة: أن السياق هو ما يعرف الآن بالسياق اللغوي الذي يُمثله الكلام في موضع النظر أو التحليل.

وهذا بالنسبة لمفهوم السياق، أما عند الحديث عن أنواع السياق، ومن خلاله يبدو أنَّ أغلب الدارسين يشيرون إلى نوعين من السياق، هما السياق اللغوي والسياق الحالي، وهو التقسيم الذي استقر عليه الدرس اللغوي العربي – والبلاغي منه على وجه الخصوص – فيما يعرف بفكرة المقال والمقام.

إلا أنه قد وجدت هناك تقسيمات أخرى للسياق اقترحها مجموعة من الباحثين، من ذلك ما اقترحه K.ammer من تقسيم السياق إلى أقسام أربعة:

  • السياق اللغوي: هو البيئة اللغوية التي تُحيط بصوت أو فونيم أو مورفيم أو كلمة أو عبارة أو جملة.
  • السياق العاطفي: هو السياق الذي يتولى الكشف عن المعنى الوجداني، والذي قد يختلف من شخص إلى آخر. إن دور هذا السياق كونه يُحدد درجة القوة والضعف في انفعال المتكلم مما يقتضي تأكيدا أو مبالغة أو اعتدالا، فكلمة (يكره) غير كلمة (يبغض)، رغم اشتراكهما في أصل المعنى، وكلمة (يود) هي غير كلمة (يحب).
  • سياق الموقف: ويعرف بأنَّه الموقف الخارجي الذي جرى فيه التفاهم بين شخصين أو أكثر، ويشمل ذلك زمن المحادثة ومكانها، والعلاقة بين المتحادثين، والقيم المشتركة بينهما والكلام السابق للمحادثة. ويختصره بعضهم بقوله: هو الظروف الخارجية المحيطة بالحدث اللغوي.
  • السياق الثقافي: وهو السياق الذي يكشف عن المعنى الاجتماعي، وذلك المعنى الذي توحي به الكلمة أو الجملة، والمرتبط بحضارة معينة أو مجتمع معين ويدعى أيضًا المعنى الثقافي. فكل ثقافة تتميز بخصائص لا تتوافر في ثقافة مجتمع آخر، ومن ثم قد تختلف دلالة الكلمات من بيئة إلى أخرى.

وهناك أيضاً تقسيم آخر للسياق منسوب "للأسلوبيين"؛ ذلك أنَّهم يقسمونه إلى نوعين: الأول: السياق الصغير: ويقصد به الجوار المُباشر للفظ قبله أو بعده. والآخر: السياق الكبير: ويقصد به ما هو أكبر من الجوار المُباشر للفظ كالجملة أو الفقرة أو الخطاب جملة، وقد يتخذ هذا المصطلح أسلوبيا دلالة خاصة تتمثل في جملة المعطيات التي تحضر القارئ، وهو يتلقى النص بموجب مخزونه الثقافي والاجتماعي.

أما عن السياق في الفكر اللغوي الغربي، فقد شكلت دراسة النصوص خاصة النصوص الدينية والقانونية؛ بهدف تحصيل المعنى والوقوف على الصحيح والمتين منه – قبلة الدارسين قديماً وحديثًا، ومن أجل ذلك تراهم قد وظفوا علوما شتى، ومناهج مختلفة تتناسب وطبيعة كل نص محاولين تلمس أحسن الطرق وأقرب المسالك لإدراك المعنى.

أما فيما يخص نظرية السياق التي نحن بشأن الحديث عنها فتُعد عند كثير من الدارسين الإسهام الحقيقي للغوين الإنجليز في حقل النظريات اللغوية، إلى جانب نظرائهم الأروبيين والأمريكيين، فقد ظلت المدرسة اللغوية في بريطانيا ردحاً من الزمن لا تهتم إلا بالجوانب التحليلية للغة، دون وضع نظرية لغوية على يد "فيرث" الذي كان يعرف أن اهتمام علماء اللغة في بريطانيا لا يعدو وضع المعاجم والدراسات الصوتية واللهجية.

وإذا كانت هذه النظرية قد نسبت إلى فيرث، فإنها بلا شك كانت لها إرهاصات بشّرت بمقدمها، وجذور عند من سبق من علماء شاركوا بشكل أو بآخر في بلورتها وصياغة أفكارها، إلى أن وصلت إلى مرحلة النضج والاكتمال على يديه.

ويبقى أنَّه من نافلة القول الإشارة إلى أنَّ فكرة السياق عندما تناولها الغربيون في القرن العشرين، لم تكن جديدة بالمرة، بل سبق إليها العلماء العرب، والهنود أيضًا، بل إنَّ فكرة السياق ودلالته في المعاني الحقيقية للكلام كانت مطروحة في الفكر الإنساني منذ أفلاطون وأرسطو، إلا أنَّ الفضل في إعادة الحياة إلى هذه الفكرة يعود إلى فيرث الذي صاغ منها نظرية علمية قد تلتقي في بعض جوانبها مع آراء القدماء، ولكنها بلا شك تختلف من حيث المنهج والتطبيق والتحليل.

إنَّ أهم الأفكار التي حرص فيرث على تسويقها من خلال هذه النظرية هو ما يسمى "بالوظيفة الاجتماعية للغة"، أي محاولة دراسة اللغة في إطارها الاجتماعي؛ إذ إنِّه يصر على دراسة اللغة كجزء من المسار الاجتماعي، أو كشكل من أشكال الحياة الإنسانية، وليس كإشارات، ويقيم دراسة عناصرها انطلاقًا من دراسة علاقتها بالقضايا الاجتماعية؛ وذلك لأنَّ اللغة تُحدد من خلال استعمالاتها المتنوعة في المجتمع.

 

 

 

 

 

أخبار ذات صلة