هنية الصبحية
يقول أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة طنطا ياسر قنصوة في مقاله - المنشور بمجلة (التفاهم) - "العدل والقانون في الفكر السياسي المعاصر": إنّ القانون مسؤول عن تحقيق العدل القائم على المساواة من خلال تأمين الفرص المتكافئة التي يسعى إليها العدل. وقد تضمنت دراسته مجموعة من العناصر تمثلت في أصول ودلالات العدل في الوضعية القانونية، والعدل قيمة قانونية سلبية، وأخيرا قدم تساؤلا لعنصر القانون: هل ثمة مفهوم ليبرالي للعدل؟
يوضح الكاتب قنصوة رؤية المذهب الوضعي للقانون بأنه لا يوجد مفهوم عقلاني للعدالة خارج حدود القانون الوضعي، فأوجدت العدالة بوجود القانون الوضعي، حيث إنه لا توجد عدالة مجردة ومطلقة وإنما توجد عدالة نسبية. وقد ظهرت أولى الإرهاصات للتفرقة بين قوانين الكون الطبيعية والتي تعد حاكمة لسلوك الكائنات وفق مبدأ السبب والمسبب مع العالم هيوم.
وقد بين قنصوة أنّ هيوم اختلف في مفهومه لكلمة طبيعي عن أنصار نظرية القانون الطبيعي، فيرى هيوم أن الفرد كائن مبتكر، وعندما يصل إلى ابتكار ضروري ولازم لحياته فإنه يلجأ لقواعد العدالة ملتبسة وطبيعية في آن واحد؛ بحيث تكون مشتركة بين الناس ولازمة لاستقرار حياتهم.
كما يشير الكاتب إلى أنّ هيوم قد طبق منهج الملاحظة والتجربة في المجال الاجتماعي، ليؤكد الأساس الاقتصادي للتجربة الاجتماعية، وقد اعتبر هيوم الملكية كقواعد أخلاقية للعدالة التطبيقية من خلال إثبات الملكية وانتقالها بالتراضي والوفاء بالوعود، بالإضافة إلى ضرورة إدراك الفروقات بين ما هو وضعي وما هو أخلاقي، إلا أنّ القانون الوضعي يتشارك مع الأخلاق في كونه معياريا، حيث يضع قواعد للسلوك أكثر من اهتمامه بالوقائع. كما بيّن هيوم أنّ القانون الطبيعي ليس الصورة المثلى للعدل بل إن التجربة تؤكد ذلك، باعتباره صياغة بلاغية للقواعد الأخلاقية، الأمر الذي كشف عن ضرورة طرح سؤال حول إمكانية الوصول إلى معيار عقلاني للدلالة على الصواب والخطأ عند الممارسة الاجتماعية، وفي المقابل نجد كانط يحاول أن يحدد إجابة هذا التساؤل، حيث وضع تمييزه بين الواجبات الشرعية الملزمة قانونيا والمفروضة من قبل سلطة سياسية شرعية وبين الواجبات الأخلاقية التي يجب أن تمثل القاعدة الأخلاقية التي تنطلق منها أفعالنا؛ بتأكيده أنها تمثل الأمر المطلق في تجسيدها لأحكام أخلاقية مطلقة إلا أن ذلك لم يعطها معيارا واقعيا فعالا لحل المشكلات المتراكمة والضرورية.
كما ذكر قنصوة أن المذهب النفعي قد وضع أساسا عقلانيا للصياغة الوضعية للقانون التي كشفت استقلالية القانون عن قضايا الأخلاق والدين حسب ما عرفه جيريميبنتام أن علم التشريع الذي يؤكد شرعية القاعدة القانونية دون النظر إلى صوابها أو خطئها الأخلاقي، حيث تنبثق شرعية القاعدة القانونية من نفعيتها، فهذا التصور يضع حدا فاصلا بين كل من الالتزام القانوني والالتزام الأخلاقي. إذن، فالمعنى الحقيقي لكلمة قانون هو إرادة المشرع في وضع القاعدة القانونية الملزمة. كما قدم جون سيتوارت مل صورة النفعية في عموميتها أن النفعية ملتزمة بقوانين وترتيبات اجتماعية ونظام تعليمي يمكن كل فرد من العيش في حالة من التوافق مع أفراد المجتمع بأكمله. كما يوضح الكاتب أن الصورة الأخلاقية للنفعية تتيح فرضية حس العدل بمعنى شعورك وبحثك عن جزاء من يلحق الضرر بنا وأولئك الذين نتعاطف معهم وجدانيا، حيث يشتمل حس العدل على كل الأفراد في المجتمع لامتياز القدرة الإنسانية على التعاطف الموسع، والمصلحة الذاتية المتسمة بالذكاء؛ ولذلك نحن نشعر بالضرر الذي يمس الآخرين كما لو كنا نتعرض له في نفس الوقت، وهنا يكون الحق حينما نجعل المجتمع يدافع عنه بقوة القانون أو بقوة الثقافة والرأي وبذلك يحصل الأفراد على الأمن الذي يعده سيتوارت مل المصلحة الأعظم من كل المصالح.
كما يوضح الكاتب أن الفكر السياسي المعاصر ناقش العدل من وجهات نظر مختلفة، وجاء الأكثر جدلية حسب ما طرحه عالم الاقتصاد والفيلسوف السياسي والقانوني الليبرالي فريدريك هايك، حيث طرح ما يدعى بقواعد السلوك العادل والذي يمثل صورة قانون الأعراف ومن خلال هذه القواعد يمكن للمجتمع المنفتح أن يؤكد وجوده، كما يمكن القول أن تلك القواعد تتسم بسمات أساسية تمثلت في التعميم والتوكيد والمساواة، كما يطلق عليها القواعد المستقلة بصفة نهائية وهي تخدم بنية النظام التلقائي للأفعال الإنسانية، وفي المقابل توجد قواعد التنظيم التابعة بصفة نهائية والتي تشكل صورة القانون العام الذي يحدد نظام عمل الحكومة؛ وبذلك فهنالك صورتان للقانون هما: الأولى قانون الأعراف أو الخاص والقانون الجنائي، والثانية القانون العام أو القانون الرسمي حسب ما يراه هايك؛ وبذلك فهو يهدف إلى التعامل مع السلوك الإنساني.
كما يوضح الكاتب أنه يمكن التمييز بين أنواع السلوك المختلفة من خلال إدراك قواعد السلوك العادل باعتبارها تعبيرا عن أفعال الأفراد بحيث يصبح فعل كل فرد في ظل النظام التلقائي في المجتمع نتيجة لأفعال الأفراد الآخرين وما يمكن تسميته بالعدل التبادلي؛ إلا أنه لم يحقق حياة عادلة لأفراد المجتمعات بحيث يسودها التضامن وإنما تجعلهم أكثر فردية وأكثر تحررا، فالدعوة إلى العدل التبادلي لا تحقق التبادل الإنساني المتعدد والشامل؛ وإنّما يحمي الملكية الخاصة التي تصبح في ظل العدل التبادلي ملكيات متعددة، ويوضحها هايك بأن العدل الذي يمثله القانون في منع التعدي على الملكية الخاصة.
ويذكر قنصوة وجهة نظر هايك للعدل حيث يراه أنه لا يوجد معيار وضعي له، وبذلك يمكن تجربة معيار التعميم السلبي عليه؛ فهناك العديد من الجهود المبذولة في سبيل تطوير قواعد السلوك العادل لكي يصبح مقبولا لدى أفراد المجتمع ويكون ما هو غير عادل محط اختبار بحيث يمكن تصور اختبار انعدام العدل كافيا لإبلاغنا بما يجب أن يكون التوجه للتطوير الأساسي للقانون. ومع ذلك، يجب أن ندرك أن هذا الاختبار غير كاف ليمكننا من بناء نسق جديد للقانون؛ لأن ّالاختبار السلبي لانعدام العدل هو الشيء الوحيد الذي يتطابق مع إمكانية تطوير النسق الأساسي للقانون. من هنا، يوضح الكاتب أن السعي إلى الحقيقة ليس معناه قدرتنا على الوصول إلى الحقيقة المطلقة.
المفهوم الليبرالي للعدل يتحدد من خلال سبيلين هما: العدالة الإجرائية وتمثل تلك الإجراءات التي يتم اتخاذها لحسم قضية محل خلاف على نحو منصف لكل الأطراف، فتكون المعاملة قائمة على المساواة والحيادية في اتخاذ القرار وينال كل طرف حقه في التعبير عن رأيه. أمّا بالنسبة للعدالة التوزيعية باعتبارها اجتماعية تعني وجود فروق بين الأفراد من حيث أوضاعهم الاجتماعية حسب قدراتهم ومواهبهم، وليس عدلا أن يتم توزيع المنافع والمسؤوليات على نحو متساو على أفراد غير متساوين؛ ولذلك فعدالة التوزيع تهتم بالمعايير التي بموجبها يحصل كل فرد على نصيبه من الحصيلة النهائية للخيرات. وبهذا يشير الكاتب إلى أن القانون بقواعده التي تنشد العدل تكون مرهونة بما هو إيجابي وسلبي في الاتجاه الليبرالي بتعددية تصوراته للعلاقة القائمة على العدل والقانون في كل مجتمع ليبرالي.
