زهرة السعيدية
كتب يوسف الكلام بحثاً نشر في مجلة "التفاهم"، تحت عنوان "جدلية الوحي والإلهام في الفكر المسيحي"؛ ناقش فيه التحولات التي طرأت على مفهوم الوحي في الديانة المسيحية نتيجة ما كشفته الدراسات النقدية من أن النصوص المسيحية المقدسة عبثت بها أيادٍ بشرية، أو رُبما كتبها البشر أنفسهم؛ لذلك استمرَّت الكنيسة في محاولة حماية قدسية الكتاب المقدس؛ فأخذت تعرفه بطرقٍ مختلفة، حتى ظهر أخيراً مفهوم الإلهام، وكان بمثابة طوقِ نجاة أنقذ قدسية النصوص المسيحية.
لنتَّفق أولاً على أن المسيحية ديانة ذات فكر تطوري مرن، تعمل على تغيير معتقداتها مع ما يتناسب متطلبات المرحلة. وإن لم تكن كذلك فلم تكن لتتحول من مجرد مجموعة تعاليم كان ينشرها رجلٌ يهودي بسيط إلى الديانة الأكثر انتشاراً في العالم اليوم، ولن يُصبح هذا الرجل البسيط إلهًا وتجليًّا لله في الأرض؛ فمنذ القرن الثاني بدأ المسيحيون بتقديم إيمانهم مُغلَّفاً بما تتطلبه ثقافة كل عصر؛ حتى أصبحت لاحقاً دين الإمبروطورية الرومانية المعتمد. غير أنَّها تحوَّلت بعد ذلك إلى ديانة شرسة همجية أدخلت أوروبا في العصور الظلامية. لكن لم تلبث الحركات الإصلاحية أن ظهرت بعد التغيرات التي حدثت على المستويات الاقتصادية والفكرية والعلمية، فعادت الكنيسة إلى تقديم نفسها بشكلٍ آخر أقل همجية.
لم تحدث التغيرات على المستوى العقدي فقط، بل على المستوى المفاهيمي أيضاً، وليس أوضح مثالاً على ذلك من الجدل حول مفهوم الوحي، بعد أن كشفت الدراسات التاريخية والأركيولوجية والفيلولوجية حتمية تدخل البشر في كتابة الكتاب المقدس؛ لذلك سعت الكنيسة جاهدة إلى التأكيد على أن نتائج هذه الدراسات لا تعني بالضرورة أن قدسية الكتاب محل شك؛ وذلك من خلال إحداث تغييرات مستمرة على مفهوم الوحي، حتى استقرّت أخيراً على استبداله بالإلهام.
إشكالية مقاربة الوحي في المسيحية:
الوحي في مفهومه البسيط هو "غيبيات وأحكام تصدر عن الله، ويتلقاها النبي". وقد عرَّفه توما الأكويني على أنه "اشتغال الله على عقل النبي وكشفه لأفكار جديدة عن طريق الخيال والحواس؛ حيث يضع المحتوى أولاً في عقل النبي ثم يمّكن هذا النبي من معالجة هذا المحتوى وتبليغه للناس". لكن الأكويني أكد أنه لا دخل للنبي في تكوين أي من هذه الأفكار، فكل ما يتلفظ به ما هو إلا تجلٍ لكلام الله على لسانه.
يقول الكاتب لمَّا لم يعد مصطلح الوحي في المسيحية يطيق ما كشفت عنه الدراسات النقدية عن كون الكتاب المقدس ليس سوى محض إسهامات أدبية بشرية، اضطر رجالات الكنيسة إلى الاحتياط عند تعريفهم للوحي، خصوصاً وأن مصطلح الوحي عند الأديان السماوية الأخرى كالإسلامية واليهودية ما زال يُعتبر كلام الله المنقول للبشرية من خلال النبي؛ لذلك عمدُوا إلى إعادة تعريف الوحي في إطار لا يخرج عن الكشف عن الغيبيات، ومن هذه التعاريف أذكر: "الوحي هو العملية الإلهية التي يكشف الله لنا من خلالها عن الحقائق الغيبية التي ارتضى لنا أن نعرفها". وأيضاً "الكشف الذي يكشفه الله للإنسان عن الحقائق التي لا يمكنه معرفتها إلا بواسطته، أو تلك التي لا يمكن إدراكها إلا بمشقة وجهد". ما يُمكن ملاحظته في هذه التعريفات البديلة هو محدوديتها، وافتقارها لشرح الآلية التي ينتقل بها هذا الكشف عن الغيبيات من الله إلى الأنبياء.
الإلهام بديلاً للوحي:
يقول الكاتب إنَّ الاهتمامَ بالوحي قلَّ تدريجيًّا في مقابل صعود وتيرة استخدام مفهوم الإلهام في الدراسات اللاهوتية الحديثة، وحتى إن استخدمت مفردة الوحي عرضياً فيقصد بها الإلهام، لا الوحي في معناه القديم. لكن ما المقصود حقاً بالإلهام في الفكر المسيحي الحديث؟
لنبدأ بتعريف الإلهام كما فعلنا في تعريف الوحي. يقصد به في مفهومه البسيط "إلهام الله الأفكار للنبي". وقد ذكره توما الأكويني لكن بشكلٍ غير صريح؛ حيث ذكر نوعيْن من الوحي؛ الأول: هو الوحي بمعناه الكلاسيكي كمجموعة أحكام غيبية يلهمها الله للأنبياء مع توجيهات لطريقة تبليغها. أما النوع الثاني، فهو مجموعة أحكام غيبية يلهمها الله للأنبياء من دون أي توجيهات إلهية، فيبلغونها كلٌ حسب مؤهلاته الشخصية.
وظهر مفهوم الإلهام صراحةً أول مرة في مجْمَع الفاتيكان الأول؛ حيث ذُكر فيه أن محتويات الكتاب المقدس قد دونت بإلهامٍ من الروح القدس، لكن المفهوم بقي غامضاً، واضطرت الكنيسة إلى إصدار دوريات تحاول فيها شرح وتوضيح هذا المفهوم الجديد، وقال البابا ليون الثالث عشر في معرض دفاعه عن قدسية الكتاب المقدس في إحدى هذه الدوريات: "إنَّ الروح القدس اتَّخذ من بعض الرجالات آلات للكتابة، فإذا ارتكبت بعض الأخطاء فليست بكل تأكيد صادرة عن الكاتب الأساسي، وإنما عن الكُتّاب الملهمين". أما في مجمع الفاتيكان الثاني، فقد عرَّف الإلهام على أنه اختيار الله لأناسٍ واستخدام قواهم وإمكانياتهم في كتابة الكتاب المقدس.
ويعتقد الكاتب أن مقاربات الكنيسة لمفهوم الإلهام ما هي إلا "محاولة لتجاوز النقص الذي تعانيه الكتب المقدسة"، ومحاولة لاستيعاب الأخطاء بكافة أنواعها، لكنه أشاد بمقاربة القاموس التوراتي؛ باعتبارها الأكثر موضوعية، ولأنها لم تكتف بذكر قرارات المجامع الكنسية بل تعدت ذلك وناقشت الإشكاليات حول هذا المفهوم.
تكثُر المقاربات حول الإلهام وتطول، لكنَّني أتفق مع الباحث فرناندو كانيل في أن جوهر الإلهام هو الارتباط الذي يحدث بين القدرة، والمعرفة، والإرادة الإلهية وبين الإدراك والموهبة المحدودة للبشر من أجل إنتاج نصٍ مكتوب أو معرفة شفهية متناقلة.
أخيراً.. قد يعيب البعض على المسيحية هذه المرونة، وهذه النقاشات الجريئة التي تطال أحياناً الأمور العقدية، وتعيد تعريف مفاهيم مهمة، كالوحي والإيمان... وغيرها. لكن لا يمكن إنكار أن هذه الخاصية هي التي أسهمت في جعل المسيحية من أكثر الديانات مسالمةً ووداعة وتقبلاً للآخر.
