زهرة السعيدية
ظهرتْ في القرون الوسطى في التراث المسيحي والإسلامي -على خلفية دينية وتقليدية- أدبيات تُعنى بالأمراء والسلاطين، تغلب عليها النزعة الأخلاقية؛ يبحث عز الدين العلام في مقاله "مفهوم العدل بين نصائح الملوك الإسلامية ومرايا الأمراء المسيحية"، نقاط الالتقاء والانفصال في هذه الأدبيات، ويستعرض موضوع العدل في كلا الأدبين. ويقول الكاتب: لو أن نصًّا من نصوص مرايا الأمراء المسيحية نُسب لواحد من أٌدباء السلاطين لشَق علينا إدراك ذلك. أرى أن هذا صحيح نسبيًّا إذا غَضَضنا النظر عن المواضيع الشائكة والاتجاهات الدقيقة في كلا الفكرين السياسيين، وركزنا على موضوعاتها الرئيسية.
ففي دراسة أُعدت في جامعة ستانفورد تقارن بين النصوص المسيحية/الغربية والشرقية/الإسلامية، باعتماد طرق رياضية لحساب الفروقات بينهما، اتضح أن الاختلافات فيما قبل القرن الثاني عشر هامشية ويمكن تجاهلها، أما بعد القرن الثاني عشر فبدأت كل واحدة منهما تسلك منعطفا مختلفا لأسباب سأذكرها ختاماً.
لمعالجة سؤال متى وكيف تحديداً، انفصلت التجربة الإسلامية السياسية عن نظيرتها المسيحية، وركدت حتى القرن التاسع عشر بعد أن كانت متماثلة معها تقريباً، ومشاركة إياها التراث المؤسسي، لا بدّ من إلقاء نظرة على ثيمة وموضوعات المرايا المسيحية والآداب السلطانية، ولا بد من التركيز على أحد مواضيعها لنحدد نقاط الالتقاء والانفصال، وكما فعل الكاتب فقد ركز على موضوع العدل والرعايا، والعدل والقانون في كلا الفكرين.
الثيمة العامة لأدبيات الملوك
تتَّسم الثيمة العامة لأدبيات المشورة والنصيحة الملكية الاسلامية والمسيحية بالجمود؛ فهي لا تقدم أي تحليل سياسي أو أي حقائق معرفية عن المجتمع والسياسة في تلك الفترة من الزمن، وإنما ينصب جلّ اهتمامها على ذات الملك والأخلاقيات الواجب عليه التحلي بها كي يكون الحاكم المثالي. اتفق معظم الباحثين في الأدبيات المسيحية على أن الإهمال الذي طال هذه الكتابات سببه خلوها من أي شيء يخص نظرية الدولة، وعجزها عن تقديم أي إسهام يذكر في الثقافة الديمقراطية.
ورغم أن بعض المحققين الإسلاميين قالوا بفضل آداب السلاطين في التأسيس لدولة قانون عادلة، إلا أن للدكتور علي أومليل ومفكرين آخرين آراء مختلفة توازي آراء الباحثين في مرايا الأمراء المسيحية، فهم لا يرون فيها أي أهمية سياسية تُذكر، ونقتبس لعلي أومليل هنا: "أن الغائب الأكبر عن هذا الأدب السياسي الإسلامي هو المجتمع والسياسة كما كانا في الواقع الفعلي".
لكن سيكون من الإجحاف حقاً أن نرفع عن هذه الأدبيات كل فائدة، فهي وإن كانت لا تفعل شيئا سوى "وعظ وإرشاد الأمراء" وتكرار نفسها، فإنها على الأقل تعكس المعتقدات والممارسات في تلك الحقبة، كما أنها تفتح نافذة على حياة القصور والأمراء للمهتمين بالتاريخ.
العدل في أدبيات الملوك
تنزع هذه الأدبيات إلى تقديم رؤية لحاكم عادل لا يظلم، يعامل الجميع على قدم المساواة من خلال التزامه بعدة أخلاقيات في مقدمتها العدل. وفي حين أن هذه الأدبيات تعتبر الملك فوق القانون إلا أنها تتوسله بحشمة أن يمتثل للقانون وأن يرأف برعيته، ولا يتضح من ذلك أنها تدعوه لأسباب أخلاقية بحتة، فهي دائما تؤكد للملك أن التزامه بهذه الأخلاقيات إنما ينصب في صالحه هو، فمثلاً:
- إذا احترم هو وحاشيته حدود العتبة في استجباء المستحقات السلطانية ولم يتجاوز حد المعقول في إجحاف الرعايا وامتصاص أموالهم، فسيستمر الرعايا في العمل وسداد الضرائب، أما إذا جاوز الحلب فسيحلب الدم؛ أي سينهكهم ولن يصبحوا قادرين على احتمال جوره.
- إذا احترم التراتبية الاجتماعية واتبع سياسة الترغيب مع الأعيان والشرفاء، سيكسبهم في صفه وسيحفظ موقعه.
وفي معرض الحديث عن الرعية، أشار الكاتب إلى تصورات الأدبيات المسيحية والإسلامية عنها، والمفارقة المثيرة للجدل هنا هي أنها تعتبر الرعية أساس السلطة ومادة اشتغالها من جهة، ومن جهة أخرى تصوغ تصورات دونية بشأنهم ناعتة إياهم بصفات تحقيرية.
انفصال التجربتين
تتغيَّر الأمور تدريجيًّا في بداية القرن الثاني عشر بالنسبة للمرايا المسيحية، وتسلك مسلكاً مغايراً للتراث السلطاني؛ فهي لم تعد تقتصر على النصح المجرد بل تجاوزت ذلك لتهتم بمتطلبات السلطة في ذلك الوقت، وركزت على التقنيات السياسية التي ستنعكس لاحقاً على التطبيقات العملية؛ مثل سن القوانين ومجالات أخرى. رغم أن فكرة "القانون فوق الجميع" بمن فيهم الملك بدأت تلوح بشكل محتشم في أدبيات العصر الكارولنجي 800م -987م، إلا أنها أصبحت أكثر صلابة في كتابات هلينار الذي بدلاً من أن يُشطّ في التغني بفضائل العدل كسالفيه، تضلّع في شرح الخطوات العملية لتحقيقه، مؤكداً أهمية القوانين البشرية وإعطاء الأولوية للصالح العام. كل هذا -بجانب علمنة الحياة المدنية- أدى لانخفاض تدريجي في التركيز على الدين في أدبيات المرايا، ومن ثم أخذت الكتابات الأوروبية تزيح الثيوقراطية عن السياسة، وأخذت تركز أكثر وأكثر على المجتمع ومتطلبات العصر، وحاربت من أجل تأطير تطورات الحياة المدنية المستمرة بقوانين ترسي دعائم المجتمع المدني، في الوقت الذي حاربت فيه كذلك من أجل تقرير الحكم كمهنة مهمتها الحرص على الدولة وشعبها.
كل الذي حدث في أوروبا بعد القرن الثاني عشر لم يحدث للأسف في العالم الإسلامي؛ حيث استمرت الكتابات السياسية الإسلامية على حالها حتى سنوات متأخرة من القرن التاسع عشر فبقيت الحياة المدنية حبيسة الشرع ومدونات الفقهاء، وظل التركيز على الدين حاضراً بشدة في السياسة، وأصبح القانون هو الشرع وعلى الحكام الالتزام وإلزام الجميع به.
ويرى الكاتب أن المعضلة التي حدثت في الكتابات السياسية الإسلامية هي أنها رفضت أي تقنين مدني أو أي مشاركة بشرية في صناعة قوانين تناسب متغيرات الحياة المدنية. وأرى شخصيًّا أن سبب ذلك هو البلادة والتثاقل؛ فهذه الكتابات قبلت بالاقتباسات الضمنية من أنظمة الحكم الساسانية والفارسية بحجة "السياسة الإصلاحية"، لكنها لم تلقِ بالاً للتطورات الاجتماعية في الشارع الإسلامي، بل تجاهلتها وحشرتها في بؤرة الشرع الضيقة.
