مُحمَّد الشحي
إنَّ الأوراق الفكرية التي تعرضُ الأفكار الفلسفية والمفاهيم المنطقية في إطار تطوُّرها التاريخي، وتربط فيما بينها وبين الأرضيات المؤسسة لامتداداتها في سيرورة التصورات المعرفية، لها دَوْر مهم في تشكل الوعي الصحيح لتلك المفاهيم؛ مما يجعل القَّراء يُحسنون قراءتها بالمعنى المراد منها؛ وبالتالي يستخدمونها في سياقاتها الصحيحة، بعيدًا عن المغالطات والمزايدات بها، والتي قد يُراد منها التسويق المعرفي الفارغ من المعنى الحقيقي؛ فيبرز ذلك الكاتب وغيره بمظهر المفكر والفيلسوف، بينما هو يقف على أرضية هشة من المفاهيم تميد به في موقف المحاججة مع الواعين بتلك المفاهيم. وهذا ما سعى إليه إمام عبدالفتاح إمام في مقاله المنشور في مجلة "التفاهم" بعنوان "الجدل في المنطق الأرسطي.. وأعمال الفلاسفة والمتكلمين"؛ إذ تعرَّض لواحد من أكثر المفاهيم الفلسفية استهلاكا في السياقات الفكرية، أعني مفهوم "الجدل"، لدى أهم الفلاسفة والمتكلمين قديمًا وحديثًا.
وإنْ كان لكلمة "جدل" دلالات ذات أبعاد سلبية في الثقافة العربية، والتي رسختها النصوص الدينية، القرآنية بالتحديد، إلا أننا بصدد استعمال الكلمة في سياقاتها الفلسفية؛ لذلك جاء الكاتب بمنشأ مفهوم "جدل" في الثقافة التي تعد المنبع الأول، المعروف على الأقل للفلسفة العقلية؛ أعني الفلسفة اليونانية. فكلمة "جدل" كانت لها دلالة فن الحوار؛ إذ إنها استقيت من الفعل "يحاور". ومن هنا، نستطيع القول بأنَّ الجدل في جذوره محايدٌ فيما يتعلق بالدوافع والنوايا النفسية التي صبغت مفهوم "الجدل" مثلما نجد في قولنا "فلان كثير الجدال"، ونعني بذلك أنه يماري في كلامه من أجل المراء والجدال.
ولعلَّ من الأسباب التي دعت لإطلاق صفة "الأرسطي" على المنطق الذي رسم معالمه وحدوده أرسطوطاليس؛ وبذلك يُعرف في أوساط المثقفين، أن أرسطو قد جعل الجدل قسمًا من منطقه، وناقش زينون في كتابه "علم الطبيعة"؛ لذلك عدّه الكاتب أعظم من اهتم بمفهوم الجدل قديمًا. بينما جعل المكانة ذاتها في العصور الحديثة للفيلسوف الألماني هيجل المعروف بأنه وضع أساسات الديالكتيك أو الجدل. وتنبع مركزية هيجل في تأصيل مفهوم الجدل في المنطق أنه كتب كثيرًا في موضوع الجدل حتى سمي بالفيلسوف الجدلي، كما أن لمفاهيمه تأثيرًا ممتدًّا في الفلسفتين الماركسية والوجودية على اختلاف مشاربهما في فهم الجدل.
بدأ الكاتب في استعراض مفهوم الجدل عند اليونانيين، مُقِرًّا بأن للسابقين على أرسطو فضلَ وضع أساسات المفهوم. ومن هؤلاء زينون، تلميذ برمنديس، وقد أطلق عليه أرسطو بأنه هو مؤسس الجدل وإنْ لم يستخدم كلمة "جدل". ويتلخَّص مفهومه للجدل بالتسليم بموقف الخصم ثم النظر فيما يستتبع هذا التسليم من قضايا؛ كان زينون معنيًّا بالدفاع عن أفكار أستاذه برمنديس القائلة بأن الوجود واحد، وأن الوجود ساكن؛ مما يعني أن الكثرة والحركة مظهران خدّاعان، فيقول زينون بأنه إذا كانت الأشياء كثيرة فهذا يعني أنها إما أن تكون محدودة أو لانهائية، والنتيجتان مُتناقضتان؛ إذ إنْ كانت الأشياء كثيرة فلا بد أن يكون عددها هو هو لا أكثر ولا أقل، إذن هي نهائية. وإذا كانت الأشياء كثيرة فإنها لانهائية العدد إذ بين كل شيئين شيء آخر، إذن هي لانهائية.
أما سقراط، فقد استخدم الجدل بمعناه المحايد، وهو المحاورة؛ إذ يعمد الفيلسوف إلى استيقاف أول شخص يقابله في الشارع ملقيًا عليه التحية قائلا "صباح الخير"، ليرد عليه "وهل تعرف معنى الخير؟" لينفتح باب للحوار تضيق به زوجته ذرعًا فتعمد إلى صب دلو ماء على سقراط ومن معه. وقد عرض الكاتب مثالين من أمثلة استعمال سقراط لمفهوم الجدل بمعنى المحاورة، وكلاهما كان يدور حول مفاهيم فلسفة الأخلاق؛ كالخير والشر، والتقوى والفجور وغيرها. ولعل لمحاورة سقراط مع تلميذه أقريطون الذي دعاه إلى الهرب من السجن بعد اتفاقه مع السجان، خيرَ دليل على الجدل الصحيح على حد تعبير زكي نجيب محمود؛ إذ وصفها بقوله: إن هذا الحوار الصغير مثل رائع للجدل الصحيح؛ إذ ترى فيه كيف إذا سلّمت بالمقدمة فلا مهرب لك من نتائجها.
انتقل الكاتب إلى عرض مفهوم الجدل كما هو عند أفلاطون، أهم تلامذة سقراط؛ فالجدل عنده هو السبيل الواصلة بين عالم الحس وعالم العقل، ويقسّمه إلى جدل صاعد، وجدل هابط؛ فالإنسان يلاحظ الجزئيات ثم يرتفع منها إلى الطبيعة العقلية العامة التي تربط بينها؛ وضرب لنا مثالا لذلك: هذه الشجرة الجزئية وتلك شجرة الأمس، وما قبله وما بعده، إلى أن نصل إلى الشجرة الأصلية؛ أي مثال الشجرة في عالم العقل الخالص. لكن هذه العملية لا بد أن تكتمل بعملية أخرى يهبط بها الإنسان من الأجناس العالية إلى الأنواع التي تندرج تحتها، ثم الأفراد، وله أن يسير في سبيل ذلك على منهج القسمة الثنائية.. وهكذا يصل بنا أفلاطون ليقرر بأن الجدل هو المنهج الفلسفي الأعلى، وكان من المقرر أن يكون الجدل هو المرحلة الأخيرة في التربية النظامية التي وضعها أفلاطون لفلاسفة الملوك في دولته المثالية؛ وبذلك يكون الجدل قد ارتفع إلى كونه منهجًا وعلمًا يُدرَّس في الأكاديمية.
أما أرسطو فقد جعل الجدل ضربًا من القياس أو الاستقراء، والقياس -كما يقرر- هو قول قُدِّم له بمقدمات فلزمت عنها نتيجة بالضرورة، فإذا كانت المقدمات صادقة، فستكون النتيجة صادقة كذلك. وأشهر مثال أرسطي لذلك: كل إنسان فانٍ، وأرسطو إنسان؛ إذن أرسطو فانٍ. فيتضح من هذا المثال أن الجدل عند أرسطو ضرب من القياس، لذلك قال: "القياس الجدلي هو الذي ينتج من مقدمات ذائعة". وهو -أي أرسطو- يرى في الجدل ثلاث فوائد هي: في الرياضة العقلية، وفي المناظرة، وفي علوم الفلسفة.
ويرى الكاتب أن الفلسفة الإسلامية لم تخرج عن مفهوم أرسطو للجدل بأنه القياس؛ إذ قال ابن خلدون في مقدمته: "وكتاب الجدل هو القياس المفيد في قطع المشاغب وإفحام الخصم"، وبذلك يقرر الجرجاني في تعريفاته.
وختامًا، نقر بأنَّ لمثل هذه المقالات المضيئة حول مفاهيم الفلسفة فضلًا في تقديم رؤية متكاملة وأفقية واسعة لمدلولات لها إرثها الفلسفي القديم، وامتدادٌ حاليّ في المباحث الفكرية.
