فلسفة الدين في الفكر العربي

هنية الصبحية

على الرغم من المحاولات التي يبذلها المتخصصون في سياق فلسفة الدين إلا أنها لا تتجاوز عشرة مؤلفات وأغلبها مفاهيمية، حيث لا تزال فلسفة الدين تخلط بالفلسفة الدينية. وإما أن تخلط بالعلوم الإنسانية والاجتماعية في الدين، التي تتمثل في علم النفس الديني وعلم الاجتماع الديني وأنثربولوجيا الدين، وأحيانا ما يكون الخلط بين فلسفة الدين وعلم الكلام. هذا ما ناقشته ندوة المركز الدولي لعلوم الإنسان والاتحاد الفلسفي العربي في مدينة جبيل بلبنان التي لخصها أستاذ فلسفة الدين والفلسفة السياسية الحديثة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء محمد الشيخ، وقد احتضنت مجموعة من المفكرين والأساتذة والمهتمين بفلسفة الدين، وتسليط الضوء عليها في مقاله - المنشور "بمجلة التفاهم" -، أين نحن من فلسفة الدين؟".

تشير المعطيات التاريخية أن الفكر العربي يفتقر إلى مبحث تاريخي لمفاهيم فلسفة الدين؛ حيث لا يوجد تاريخ عربي ناقش المصطلحات والمفاهيم العصرية بصورة واضحة ومتينة، بحيث يبحث عن المصطلحات السياسية والاجتماعية المتعلقة بتجربة التاريخ الاجتماعي المستخدمة في الدراسات.

وينبه الشيخ إلى أنه يوجد خلط في العالم العربي بين  فلسفة الدين والفلسفة الدينية، ويشير إلى أن كل إنتاجات العرب فلسفات دينية بمختلف أشكالها، وأن عليهم تأسيس مبحث فلسفي للدين قائم على توضيح مسائل الدين التوضيح الفحصي النقدي بحيث يراعي هذا الفحص أخلاقيات فلسفة الدين والمتمثلة في كونها مبحثا ينفتح على كل المعارف، بالإضافة إلى كونها ملزمة بأن تراعي مبدأ الحياد القيمي في كل الأديان. وعليه فقد أشار الشيخ إلى أن التراث العربي لديه محاولات في فلسفة الدين، كتجربة ابن كمونة في كتابه (تنقيح الأبحاث للملل الثلاث)، إلا أنه نبه أن هذه التجربة خلطت بين فلسفة الدين واللاهوت الفلسفي، كما أوضح أنها ظهرت في نهاية القرن الثامن عشر في ظل الحروب الدينية والتعددية التي كانت في الغرب، ودور ذلك في إنشاء فلسفة الدين عند تلامذة كانط إلى أن أصبحت من أهم المباحث الفلسفية الغربية.

ويذكر الأستاذ أديب صعب شيخ فلسفة الدين في العالم العربي بأن المنهج النقدي والحوار الديني يتمركز حول الدعوة إلى التفكير النقدي التي تحتل المساحة الأكبر في تاريخ الإنسانيات المختلفة منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، وتمثلت أبرز العناصر المكونة لهذا التفكير في بناء المعارف والأحكام والمواقف والقيم على العقل. وأنه على الرغم من الجهود التنويرية إلا أن الحاجة إلى النقد لا زالت قائمة ومستمرة، وضرورة ملحة؛ لخشية أهل الدين من الفلسفة ومن التفكير الفلسفي النقدي، بالإضافة إلى ضرورة البحث عن منهج غير تقليدي وغير غائي لفهم مختلف الأديان الذي ينقلنا من المقارنة بين الأديان مقارنة قائمة على المفاضلة إلى مقارنة وصفية تعتمد وتركز على وحدة الأديان؛ باعتبارها الأنموذج الحواري الذي يختاره المؤمن، إذ لا يجوز أن يكون الإيمان الديني دافعا للحروب الأهلية والقومية؛ لأن الدين محبة وسلام وتسامح.

كما أشير إلى تجربة عبدالجبار الرفاعي صاحب موسوعة فلسفة الدين ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية التي تعنى بفلسفة الدين وتأويلاته. إذ يعتقد الرفاعي أن فلسفة الدين فرصة للخروج من الفكر الداعشي. كما أوضح أن مفارقة العقل ببث شجون وحديث يقترب من القلب والروح أكثر منه من العقل والمنطق، حتى وإن كان متمسكا بنزعة فلسفة الدين نحو الشأن العقلي. حيث قادته هذه الفكرة إلى الحديث عن الدين الأنطولوجي والدين الأيديولوجي. فالإنسان يشعر بالجوع في روحه وهذه الروح بحاجة لإظمائها فيتم إظماؤها بما يعرف بالظمأ الأنطولوجي والوجودي، ويمكن أن يعبر عنه في افتقار الفرد إلى ما يظميء وجوده. وهنا يوضح الرفاعي أن الدين ليست مهمته مهمة أيدولوجية وإنما مهمة أنطولوجية ووجودية لإرواء الظمأ الوجودي الذي يحتاجه الفرد.

واستعرض محمد المزوغي الفرق بين تصوره الديني وتصور كل من عزمي بشارة ومقابلته بين كتابه الجديد (تحقيق ما الإلحاد في مقولة) وكتاب عزمي بشارة (الدين في العلمانية) ومقابلته بنقد الدين عند الفلاسفة الأنواريين دولباخ نموذجا والدفاع عنه بالطريقة التفهمية عند هيجل. ويرى المزوغي أن عزمي بشارة سعى لنقد محاولات دحض الدين والتي تعتبر دحضا تنويريا فقط، فالظاهرة الدينية مجموعة من الأيدولوجيات والخرافات تحاول الدفاع عن المنظومات العقيدية حسب تصور كانط، على غرار الماديين الذين يرون أن الدين نسق أسطوري وخرافي غرضه الهيمنة على العقول. إلا أن بشارة قام بالرد عليهم وأضح بأنها غير مجدية؛ لإنها تمنعنا من دراسة الدين على اعتباره ظاهرة اجتماعية، جازما أن الدين ليس مجموعة من الأباطيل بل يمثل ظاهرة اجتماعية لا يمكن الاستغناء عنها لكونها مرتبطة بالإنسان، كما أشارعزمي على ضرورة تحصين الدين ضد العقل والاعتقاد في ملكية روحيته وتمجيد الإيمان الديني على أنه السبيل الوحيد لتحقيق الامتلاء والاعتقاد في وجود عقل مدبر. والحقيقة التي أراد كشفها المزوغي هي جعل علم الاجتماع في خدمة الدين مؤكدا على أن الدين يملأ البؤس الفردي ويقدم للمؤمن التعليل الأنطولوجي والوجوي بضرورة تقبل الوجود، وهنا يتضح أن المزوغي يتبنى أطروحة دولباخ التي تشير إلى ضرورة تخليص الفرد من الهلوسات الدينية المستخدمة لإرهابه وترويعه.

وناقش الأستاذ محمد المصباحي من المغرب قضية أوجه التقابل بين الديمقراطية والإسلام السياسي، حيث أن لكل دين سياسة سواء كانت ظاهرة أم كامنة، حتى وإن تعالى الدين، فلا بد له أن يهتم بتدبير شؤون الناس، باعتبار أن الدين يمثل مشرروع تنظيم جديد للحياة السياسية لأي مجتمع، وعليه فإن هنالك خمسة أوجه للتقابل بين الديمقراطية والإسلام السياسي، أولها أن أهم ما يميز الإسلام السياسي اعتقاده في إمكانية بناء الدولة على حق مطلق بالرغم أن الإيمان المطلق يتعارض مع السياسة، ثانيها أن الإسلام السياسي يريد إخضاع السياسة إلى المعايير الفقهية وهذا يؤثر على مصادرة الحريات التي تمثل الأساس الديمقراطي. ثالثها أن الإسلام السياسي يناشد بالمعقولية، وفي المقابل يبتعد عن العقلانية التي تعتبر أساسا من أسس الديمقراطية. رابعها أنه لا بد وأن يتم الحوار الديمقراطي والعقلاني في فضاء محايد، حيث أن الإسلاميين المتشددين لا يؤمنون بالحياد، والإسلام السياسي يريد تصورا ديمقراطيا بلا علمانية؛ لاعتقادهم أن العلمانية تهدد الدين. وأخيرا ضرورة إلزام الديمقراطيين بالثقافة بينما الإسلاميون يعادون الثقافة، فيلجؤون إلى تهميش الحياة الثقافية وتصحيرها. وجمع المصباحي  في نقاشه بين تشاؤمية العقل وتفاؤلية القلب، حيث اعتبر احتكاك الإسلام السياسي بالمعترك السياسي من شأنه أن يؤدي إلى الاعتراف والانفتاح على واقع التحديات المعقدة والمتشابكة.

كل ذلك يمثل مقتطفات من الفكر العربي في فلسفة الدين، فضرورة الاهتمام بالفلسفة بشكل عام وفلسفة الدين بشكل خاص من خلال الحوارات العلمية، ستغني الحقل المعرفي والعلمي الفلسفي.

أخبار ذات صلة