زهرة السعيدية
يبدأ إبراهيم البيومي غانم بحثه "فقه الشورى بين الأخلاق والوئام الاجتماعي" -والمنشور في مجلة "التفاهم"- من حيث انتهى بحث العلامة الشاوي في كتابه "فقه الشورى والتشاور". يحاول أولاً إيجاد العلاقة بين الشورى والمجال العام، ثم يناقش ضرورة وصول المجتمع المسلم مستوى الولاية على نفسه، مُتخِذاً مجتمع المدينة بعد أن هاجر إليها النبي محمد مِثالاً، ويختم بحثه مُقترحاً تشكيل منظومة أخلاقية مؤسسية تبدأ بتحرير الإنسان وإقرار كرامته، ثم تفرضُ الشورى كمنهج اجتماعي مُلزِم، وتفعِّل الإجماع بعد أن تنفجر عنه الدائرة الضيقة التي تحصره في المعنى الأصولي، وتحكره على العلماء المجتهدين فقط، ليصبح أكثر شمولية وفاعلية في: الاجتماع، والسياسة، والقانون.
كانتْ فكرة الشورى وموضوعاتها عالقة منذ زمن في سؤال: هل الشورى واجبة أم غير واجبة؟ ومن قال بأنها واجبة علَّق مرة أخرى في سؤال آخر أقل ذكاء؛ وهو: هل هي ملزمة أم معلمة؟ أي: هل الحاكم مُلزم بأخذ رأي الأغلبية بعد مشاورتهم أم عليه أن يفعل ذلك تطييباً للنفوس فقط. ويقول الكاتب إنَّ ما أسبغ المشروعية على هذا السؤال هو: ثقل إرث الاستبداد الممتد من الأزمنة السابقة إلى اليوم؛ حيث اعُتبر الناس من يومها رعاعا مذمومين لا قيمة لآرائهم. والحقيقة أنَّ هذا التعطيل الطويل للذكاء الجمعي والأفكار التعددية هو ما أدَّى لفشل الديمقراطية في الشرق الأوسط في أول اختبار لها.
علاقة الشورى بالمجال العام
أسهبَ الكاتبُ في مُحاولة إيجاد العلاقة بين الشورى والمجال العام، مُحَاكاةً للدراسات الغربية التي تربط بين الديمقراطية والمجال العام، لكن ما يَفْرِق هنا أنَّ الديمقراطية والمجال العام يرتبطان ارتباطاً وثيقاً باعتبار أنَّ معظم الأفكار العامة مبنيَّة على الديمقراطية، وباعتبار أنَّ الناس ومشاغلهم الجماعية هي عناصر وموضوعات العمل الديمقراطي، في حين أنَّ ربْط الشورى بالمجال العام ليس أمراً مألوفًا؛ لأنهما آتيان من مصدريْن مختلفيْن؛ فالأولى: "أمر قرآني ومفهوم شرعي أصيل"، والأخير: "مفهوم اجتماعي سياسي تبلور في سياق الحداثة وعمليات التحديث في المجتمعات الغربية"، لكنَّ هذا لا يمنع المحاولة النظرية للربط بينهما؛ لأنَّ الشورى -باعتبارها قيمة أخلاقية- لا بدَّ أن تتواجد في المجال العام إذا تحقق. ونقطة البداية النموذجية لهذا الربط هي مُناقشة دورة الرأي العام التي تبدأ بوقوع المعضلة العامة وتداولها، ثم تشكِّل وجهات النظر المختلفة حولها، وأخيرا بعد أن تغلِب وجهات النظر المنطقية بالحجج العقلية، تبدأ ردَّات الفعل بالظهور حولها بين مُؤيِّد ومُحايد ومُعَارِض، وهنا لا بد أنْ يأتي دور الشورى والإجماع على رأي الأغلبية ثمَّ القبول به. وتكون محصلة هذه الأحداث الطويلة إما قانونا عاما، أو عرفا أصيلا، أو ممارسة عامة.
ما إنْ يتحقَّق المجال العام في المجتمع، وتصل دورة الرأي العام ذروتها، حتى يصل هذا المجتمع مباشرة إلى "مستوى الولاية على نفسه"، وهي اللحظة ذاتها التي تنضُج فيها الشورى، ويتحقق بسببها الوئام العام. ويضرب الكاتب مجتمع المدينة في بدايات التاريخ الإسلامي بعد أنْ هاجر إليها النبي محمد مِثَالا على إمكانية وصول المجتمع الإسلامي إلى مستوى الولاية على نفسه، فقد وَسّع الإسلام الحريات منذ طليعته، وكان النبي يتخذ المشاورات عماداً للقرارات التي تمس المجتمع وأفراده؛ فتوسَّع بذلك المجال العام في عهده، غير أنه بدأ يضيق بعد وفاته يوما بعد يوم، إلى أنْ ساد الاستبداد وطغت قوته على المجتمعات الإسلامية.
الشورى والحرية والإجماع
يقترحُ الكاتبُ تشكيلَ منظومةٍ أخلاقية ومؤسسية، عمادُها الحرية والشورى والإجماع؛ حيث إنَّ الشورى وحدها لا يُمكن أن تتحقق بمعزل عن مبدأ الحرية، فإذا كان المجال العام هو مساحة الشورى والتشاور، فالحرية هي الركيزة التي تقوم عليها هذه المساحة. ويدعو إلى ضرورة انتزاع الإجماع من دائرته الأصولية الضيقة التي تحصُره في الموضوعات الفقهية وتحكره على علماء المسلمين، ومن ثمَّ وضعه في دائرة أوسع تشمل الموضوعات الاجتماعية والسياسية، ليكون بذلك نتاجَ الحرية والتشاور. وبالرغم من وجود تيارات تعارض التضييق على الإجماع، إلا أنها قليلة؛ حيث لا يزال محكوماً بالقيود، ولا بد من زلزلته لتحرير نظرية الإجماع وتوظيف الشورى مُجدَّداً. وهذا ما حاول العلامة الشاوي أن يقوله في كتابه "فقه الشورى والاستشارة" عندما دعا إلى فقه شورى جديد يقوم على أساس الحوار الحر والمشاورات الجادة وإقرار كرامة الإنسان، لكنَّني شخصيًّا أرى أن هذه الكرامة مُغيَّبة في المجتمعات الشرق أوسطية، ومُغيّبٌ معها حق الإنسان الأصيل في صنع القرارات التي تمسه. وعلاوة على ذلك، فإنَّ الوعي بأحقية المشاركة في صنع القرار مُغيّب كذلك بسبب التربية المجتمعية التي تقتل التفكير الناقد في المهد، وهذه الأخيرة بدورها ما هي إلا نتاج للأنظمة القمعية المتأصلة.
أخيراً.. يرجع الكاتب أسباب تدهور المجال العام في الدول الإسلامية إلى تعطيل الشورى والإجماع، الذي خلّف "فراغا نظريا ومؤسسيا"، وسمح بذلك لقوة السلطان بالاستبداد، إلا أني لا أتفق معه تماما، فالتاريخ مليء بالشواهد على قدرة الأوتوقراطية على شقِّ طريقها بين أكثر الأنظمة ديمقراطية؛ فألمانيا مثلا كانت جمهورية قبل هتلر، والجمهورية الرومانية كانت ديمقراطية كذلك قبل أن يعيث يوليوس قيصر فيها فساداً.
نأخذ على البيومي غانم هذا الإسهابَ والتكرار في تقريظ الشورى والإشادة بقدرتها على نزع المجتمعات الاسلامية من واقعها المرّ، دون أن يقدم أيَّ حلول جذرية لتفعيل هذه القيمة المجتمعية؛ فجميع ما كتب يبدو على الورق حالما ومُجْديا، إلا أنَّ الشورى طُبقت فعلاً في العديد من الدول ذات الحكم الملكي، ولكن سرعان ما تماهت مع الدولة وأثبتت عدم جدواها، ولا بد من القول هنا إنَّ تجربة الشورى كانت تجربة غضّة وهشة لا تقوم على أُسس واضحة؛ لذلك لا بد من البحث عن تجارب أخرى أكثر جدية وأوسع زمنيا ومكانيا، كالديمقراطية التي أثبتت نجاحها في اندونيسيا البلد الذي يضم أكبر تعداد للمسلمين، وأحزابا سياسية محافظة عديدة، بل يضم جماعات متطرفة.
