الأشباه والنظائر في التأويل القرآني

سالم البوسعيدي

إنّ القرآن الكريم حظي بعناية فائقة من علماء المسلمين، وبذلت جهود كبيرة في سبيل سبر أغواره والوصل إلى درر معانيه. وقد كانت عظمة النص القرآني وسعة اللغة العربية تربة خصبة استنبت فيها علماء القرآن فروعًا من العلوم والفنون المتعلقة بتفسيره أوصلها بعضهم إلى خمسة عشر علما، وكان من أهمها علم الوجوه أو -الأشباه- والنظائر وهو من المقاربات اللغوية واللسانية المعينة على فهم معاني النص القرآني وفقه مقاصده. بل هو كما ذكر السيوطي وجه من أوجه إعجاز القرآن الكريم. وسنناقش هنا مقالة لرئيس مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء (محمد المنتار) والمنشورة في مجلة التفاهم بعنوان "علم الوجوه والنظائر وقضايا التأويل".

استهل الباحث مقالته ببيان أهمية هذا المبحث ونفاسة قدره وكونه أداة مهمة لكشف معاني القرآن المكنونة في ألفاظه، بل واستنباط معاني متعددة ومتجددة من هذا الكتاب الذي لا تفنى عجائبه. فإنّه "كلما ازداد المفسر لكتاب الله - تعالى- علمًا في الوجوه والنظائر؛ نبغ في تأصيل الأصول ورد الفروع إليها، ومحاكمة المخالفين فيها إلى الحق المجرد عن الهوى". ثم عرج على التعاريف اللغوية والاصطلاحية وهي رغم تعددها إلا أنّها تصب في قالب واحد، فالوجوه أو الأشباه تتعلق بالألفاظ المتحدة في النطق والمختلفة في المعنى كلفظ "الهدى" مثلا فإنّه يأتي على وجوه عديدة أوصلها السيوطي في الاتقان إلى سبعة عشر وجها منها: الدين والثبات والقرآن والتوبة والحجة. أمّا النظائر فهي متعلقة بالألفاظ المتحدة لفظا ومعنى لكن هذا المعنى يصلح لأفراد كثر. وقد ذكر ابن الجوزي أن النظائر في اللفظ والوجوه في المعنى، وتعقبه الزركشي ومن بعده السيوطي فضعفا ذلك. والملاحظ هنا أن الكاتب اقتصر على نقل التعاريف دون تحليل نقدي لها بل اكتفى بخلاصة عامة تجنبا للاستطراد ربما؛ وإلا فإن تعقب الزركشي والسيوطي لابن الجوزي ناقشه (حاجي خليفه) في كتابه (كشف الظنون) وأيّد ما قاله ابن الجوزي. وقد تطرق الباحث لذكر قضية المشترك اللفظي في القرآن الكريم –عرضا- ولم يلمح للخلاف المشهور حولها والنقاش الدائر بين مثبتيه ونافيه سواء بين أهل اللغة أو أهل التفسير.

وفي المحور الثاني عرّج على التطور التاريخي لهذا الفن وتسلسل التأليف فيه، وقد أورد عددا من العناوين التي صنفت في هذا الباب من لدن ما ذكر عن ابن عباس وعكرمة مولاه إلى رسائل الدكتوراه والماجستير للمتأخرين. ومن نافلة القول أذكر هنا إسهاما عمانيا معاصرا في هذا الفن تمثل في برنامج "بلسان عربي" السلسلة الرمضانية التي يقدمها الدكتور محمد الحارثي على شاشة تلفزيون سلطنة عمان والتي تهدف إلى تبسيط مباحث وأمثال هذا العلم لعموم المتلقين. عرج الكاتب بعد ذلك سريعا على منهجية هذه المصنفات القائمة على المراوحة في الاستدلال بين النص القرآني والأثر والمصادر اللغوية والأدبية؛ لذلك لا يرى الكاتب صحة إدراجها في غريب القرآن. ولم يشر الكاتب هنا إلى لمحة عن نشأة هذا العلم وبداية تأسسه فهو ليس من العلوم المحدثة بل قد روي مرفوعا "لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة" وروي موقوفا عن أبي الدرداء بلفظ مشابه. كما لم يناقش تطور محتوى هذه التصانيف وتجدد طرقها ومباحثها حسب العصور المختلفة. والمتأمل يجد أن ظاهرتي الأشباه والنظائر نسيج فائق الجمال بديع التفاصيل نتج عن تمازج محكم بين اللغة العربية والنص القرآني، والسر في ذلك يتعدى مجرد ثراء المعجم العربي، بل هو ملمح من إعجاز هذا الكتاب المقدس ويشكل صورة من صور التطور الدلالي التي أسهم بها.

وحيث إنّ الألفاظ تحمل الكثير من وجوه المعاني التي تدور حولها كان لا بد لها أن تدور حول محور السياق ليتبين مقدار قربها وبعدها من مراد النص القرآني. فالسياق ميزان دقيق في الوجوه والنظائر –كما في غيرها من العلوم الشرعية واللغوية- به ينضبط التناغم بين النص ودلالته الخارجية وتتحقق الموضوعية في الفهم وتبعد الإشكالات والشبه. فالمعنى المجرد لا يمكن أن يفي بتفسير مراد القرآن إذ لا بد من مراعاة المخاطِب والمخاطَب والحال وقت الخطاب كما لا يمكن إغفال التحول الدلالي الذي أحدثه القرآن في ألفاظ اللغة. وقد بين الكاتب أثر علم الوجوه والنظائر في تفسير دلالات القرآن حسب مقتضياتها السياقية وهي تمثل جانباً من اهتمام العلماء بالمصطلح القرآني. وأخذ على بعض كتب الوجوه والنظائر انشغالها بتتبع السياقات الجزئية على حساب الدلالة العامة التي تبقى ملازمة للألفاظ مهما اختلفت مواضع استعمالها ومثل على ذلك بتفسير ابن الجوزي للفظ الإنسان وحمله على خمسة وعشرين وجها كآدم وأبي بكر والوليد بن المغيرة وغيرهم، وهذه الوجوه كلها تدور حول التمثيل لهذا اللفظ المبهم "الإنسان" بالأفراد المعنيين مستنبطة من أسباب النزول ودلالات السياق. وخلص الكاتب إلى أنّ القدماء بالغوا في اعتدادهم بالسياق وجعلوه مولدا للمعاني دون الرجوع لأصل المعنى وربطه بالمعاني الأخرى في السياق وهذا ما قد يفقد النص قيمته الأسلوبية.

لقد ساهمت خصوبة المفاهيم القرآنية وخصوصية دلالة النص الإلهي في تكوين نظام القرآن الفريد المعجز بمفرداته وسياقاته، وشكل هذا التمازج بين ثراء المفاهيم والمصطلحات اللغوية من جهة وبين دلالة النظم القرآني وبيانه من جهة أخرى نسقا فنيا واتساقا شموليا. والتأمل الواعي لمفردات القرآن ينتج دهشة بلاغية وسحرا بيانيا ولا يتأتى ذلك إلا بالانتقال من ظاهر الألفاظ إلى حقيقة المعاني ولا ريب أنّ علم الوجوه والنظائر محوري في تأويل القرآن وفهمه حق الفهم؛ فدراسة ألفاظ القرآن هي لبنة بناء التفسير وتعمير التأمل الواعي. وبجانب الرؤية التحليلية لألفاظ الكتاب الكريم ظهرت محاولات شمولية تعنى بالربط بين مختلف الوجوه والنظائر في سياقاتها الدلالية المتعددة مرتكزة على الأصل اللغوي المشترك لتكوين صورة تكاملية لبنية النص القرآني. مثل الكاتب لذلك بكتاب "تحصيل نظائر القرآن" للحكيم الترمذي والذي حاول فيه الربط بين النظائر المنتثرة وردها جميعها إلى أصل مشترك ومعنى إجمالي تتفرع منه أو ما يمكن تسميته كلمات مفتاحية لتحليل النص حسب المصطلح الحديث، وسلك الحكيم الترمذي منهج التحليل اللغوي مستشهدا بالآيات في سياقاتها المتعددة، رافضا بذلك فكرة الترادف ومخالفا لما أورده أهل الوجوه والنظائر من تعدد المعاني واشتراك اللفظ، ومثل لذلك بواحد وثمانين كلمة حللها وفق نظريته. ونهج الحكيم الترمذي هذا متفرد لم يسبق إليه فرغم تعدد المعاني المنبثقة من اللفظ إلا أنّه استطاع شدها إلى المعنى اللغوي الذي وضعت له أساسا وأوجد انعكاسا وتجليا للمعنى اللغوي الوضعي في كل الدلالات والمعاني التي تبدو متباينة أول الأمر.

إنّ التعامل مع النص القرآني مر بمراحل تطورية متعددة، وقد ظهرت في الثقافة المعاصرة محاولات تطبيق المناهج التأويلية الحديثة ومبادئ اللسانيات على النص القرآني، ويرى الكاتب أنّ هذه المحاولات وقعت في مزالق نظرية ومنهجية تستدعي مراجعتها وتعريض أسسها النظرية وأطرها المرجعية لقراءة نقدية فاحصة دقيقة، فإنّ تعريض النص لقراءة غير مألوفة لخطابه يهدر مقاصده ويخرجه من سياقه ويغيب خصوصياته وذلك أقسى ما يتعرض له أي نص؛ لذلك كان هذا العلم ضابطا مهما للممارسات التأويلية.

أخبار ذات صلة