وليد العبري
في عام 1988م، عندما رفع المسلمون البريطانيون عريضة لحكومتهم طالبين منع كتاب سلمان رشدي "الآيات الشيطانية"؛ اكتشفوا أنَّ قانون التكفير القائم لا يمنع توجيه الإهانات للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهو يُطبق فقط على المسيحية، ومن ثم رفضت الحكومة تلك العريضة، ومن ثم كتب وزير الداخلية المتخصص بالعلاقات العرقية -جون باتن- وثيقة يخاطب فيها المسلمين والرأي العام حول "أن تكون بريطانيّاً"، وتحدثت الكاتبة مها قمر الدين في مقالها المنشور بمجلة التفاهم بعنوان "الدولة الأخلاقية: الدين والأمة والإمبراطورية في بريطانيا الفيكتورية والهند" وذلك ترجمة لبيتر فان ديرفير، إذ قامت بعمل تحليلات مثيرة للإعجاب للتداعيات السياسية المُعبر عنها في ذلك النص.
كان أحد الأهداف الأساسية ترسيم ثقافة قومية مشتركة. وفقاً لباتن فان ديرفير، يمكن إيجاد هذا الأمر المشترك من خلال البحث في نقطتين لم تُذكرا في نقاش باتن المتعلق بشأن أن يكون الشخص "بريطانيّاً": المسيحية والإمبراطورية.
بالطبع، ما يُمكن تفهمه تمامًا أن يذكر أي سياسي المسيحية كمكوّن أساسي في الثقافة البريطانية في ذروة قضية رشدي. ومع ذلك تضمنت القوانين التي أشار إليها باتن التفكير الذي يحمي المشاعر المسيحية فقط، علاوة على ذلك، لا أحد يشك بأن المسيحية هي عنصر أساسي في التاريخ الذي كوّن بريطانيا.
بطريقة مشابهة، هناك افتراض غير معلن في أطروحة باتن يشير إلى أنَّه لا علاقة بكون أي شخص بريطانيا بالإمبراطورية. بكلام آخر، كانت مشكلة القيم المتضاربة -كما برزت في قضية رشدي- مشكلة جديدة حدثت في بريطانيا مع قدوم المهاجرين من الإمبراطورية السابقة.
مما يشكل مثالاً آخر على مقولة "الإمبرطورية ترد" ومع ذلك يمكن القول: إن حجج باتن التي تنادي بتقبل ثقافة قومية مشتركة، بالإضافة إلى حجج القيادات الإسلامية التي تنادي بعدم إضفاء أي صبغة دينية على الدولة، كما يظهر في الحماية السياسية لمعتقدات كل المجتمعات الدينية، متجذرة في تاريخ الإمبراطورية ذاته، ولكن يتم اختبارها على الجهات العملية الاستعمارية المتقابلة.
ويقال أحيانا إنَّ البريطانيين لا يعرفون تاريخهم؛ لأنه حدث في مكان آخر، ومن خلال بعض القراءات الخاصة في التاريخ البريطاني إلى أنه نادرا ما يتم التفكير بالعلاقة الإمبريالية من قبل المؤرخين البريطانيين، إذا لم نقل السياسيين البريطانيين بطريقة واعية.
فالمؤرخون الهنود يدركون أكثر العلاقة الإمبريالية، ولكنهم يميلون لتجاهل التطورات في عاصمة الإمبراطورية خشية جعل تاريخ المستعمرة هامشيًا بالنسبة لتاريخ أوروبا، وسوف نحاول في هذا المقال إبراز بعض أوجه الشبه والاختلافات البنيوية بين تطور الدين والقومية في بريطانيا والهند.
يعود السبب لتمكن باتن من التملص من عدم ذكر المسيحية كمكون لثقافة بريطانيا القومية إلى حقيقة أن المسيحية المنظمة أصبحت مهمشة في المجتمع البريطاني، بطريقة تدريجية خلال القرن العشرين، وتحولت بريطانيا إلى ما يعرف بالمجتمع العلماني، وصارت المسيحية كما يفترض مسألة شخصية للأفراد دون أي أهمية سياسية في الحقل العام. في النقاش الأوروبي حول العلمانية، تراجع الحضور في الكنائس وفي عددها أيضًا، وهما مؤشران للتغيير، وابتداء من العقدين الأخيرين في القرن العشرين يبدو أن هناك مثل هذا التراجع في إنجلترا، على الرغم من أن هناك نقاشا كبيرا حول فترات وأسباب ذلك التراجع، على سبيل المثال استمرار الكاثوليكية في النمو بشكل كبير حتى الحرب العالمية الثانية.
ويمكن الاستنتاج أن الصورة التاريخية مختلفة نوعاً ما بين مجتمع غربي وآخر؛ من أجل ذلك لا يُمكن تطبيق نظرية علمانية شاملة على الجميع. لا يصح ذلك فقط بالنسبة للوقائع والأرقام المتعلقة بالحضور إلى الكنيسة والعضوية فيها، وإنما أيضًا التفسيرات السببية للصنائعية والتبرير العقلاني الذي تقدمه نظرية العلمانية.
في السنوات الأخيرة برز العديد من الشكوك حول العلمانية في الهند والنصر النهائي للعلمانية، وقد رأى عالم الأنثروبولوجيا مادن أن العلمانية كرؤية عالمية شاملة مشتركة، فشلت في شق طريها إلى الهند. فلأن الهنود هم هندوس وبوذيون ومسلمون وسيخ، فهم ليسوا مسيحيين بروتستانت؛ لذا لا يستطيعون ولا يمكنهم خصخصة الدين.
يشير مادن إلى أنَّ هناك في النظرية الاجتماعية خصوصا في نظرية ماكس فيبر رابطا أساسيا بين البروتستانتية والفردية والعلمانية، ووفقًا لذلك يرى أن العلمانية هدي من المسيحية إلى العالم، وأنها جزء من تاريخ أوروبا الفريد، ويبدو أن مادن يعبر عما يبدو أنه إجماع عام بين علماء الاجتماع وعامة الشعب على حد سواء على أن الغرب الحديث علماني بطريقة فريدة، وأن الشرق متدين بطريقة فريدة.
حصل في القرن التاسع عشر تطوران دينيان أساسيان يربطان الدين بالقومية؛ أولهما: النمو الكبير والتأثير الذي كان للإنجيلية على الثقافة الدينية برمتها في بريطانيا. ثانيهما: تضمين الكاثوليك في الأمة وإعطاؤهم حق الاقتراح. دعونا نبدأ بالإنجيلية، تبدأ إعادة إحياء الإنجيلية تقليدا مع جون ويسلي في النصف الأول من القرن الثامن عشر، ولكن هناك ثانية مهمة في تسعينيات القرن الثامن عشر، واستمرت خلال القرن التاسع عشر.
إنَّ نمو الإنجيلية كان مثيراً للإعجاب، إنما الأمر الأكثر أهمية من زيادة الأعداد هو التأثير الكبير الذي كان للإنجيلية على المجموعات الدينية والأفراد من كل الأنواع. تطابق التوسع الإنجيلي بشكل كبير مع الثورة الصناعية، التي أدت إلى جميع أنواع التفسيرات السببية الاقتصادية التي تتراوح من تلك التي قدمها إيلي هاليفي وتومبسو.
ويمكن القول إنَّ الإنجيلية سعت إلى التحول الداخلي، بالإضافة إلى النشاط الخارجي من أجل تحويل الآخرين، ولكن إعطاء الأقلية الكاثوليكية حقوقها السياسية في الجزر البريطانية لم يساعد كثيرًا في الحيلولة دون وجود الرابط القوي بين مذهب الكاثوليك والقومية الأيرلندية.
برز هذا الرابط بشكل واضح في الاستياء الذي حصل عام 1843م، حيث عمل رجال الدين الكاثوليك والقوميون الإيرلنديون يدًا بيد لمواجهة الاتحاد التشريعي بين بريطانيا وإيرلندا، وأزال تجريد الكاثوليك أي وهم كان لدى الأشخاص، ولم تمنع المشاعر المعادية للكاثوليكية من أن يصبحوا رعايا أكبر كنيسة في إنجلترا في القرن العشرين.
من الواضح أن الفرق الأساسي بين الدولة الحديثة في عاصمة الإمبراطورية، وبين المستعمرات هو أنه في الأولى تكون الشرعية السياسية بالنسبة للأمة والمواطنة والهوية القومية، بينما في الثانية يستثنى الرعاية من المواطنة، بينما ترفض هويتهم القومية أو تشوه سمعتها.
إن الاختلافات الدينية والعرقية هي تشريع للاختلافات في السلطة، لهذا السبب ليست القومية المعادية للاستعمار مجرد صراعات من أجل السلطة في الساحة السياسية؛ ولكنها تحاول أيضًا مواجهة الهيمنة الثقافية للنظرية الاستعمارية للاختلاف، غالباً ما تقوم في ذلك -كما في الحالات المناقشة هنا- بتقديم تفسير بديل لأسباب الهيمنة، إما الدين أو العرق.
تبنى دياناندا نظرية العرق الآري من الاستشراق، ولكن بدلا من قبول النظرية التي تقول بأنه كان على المسيحية إصلاح الحالة المتردية للحضارة الهندوسية، اقترح العودة إلى الديانة الفيدية التي سبقت المسيحية، والتي كانت أساس كل الأخلاقيات.
