الصرامة العلمية المهدورة

محمد الشحي

إنَّ النص القرآني نال المركزية في الثقافة العربية منذ نزل على النبي محمد، كما يقرر ذلك المفكر العربي الراحل مُحمد عابد الجابري في مشروعه الفكري في دراسة بنية العقل العربي، وهذه المركزية جعلت منه مدار البحوث والدراسات والكتابات الإسلامية المبكرة، ولم يتوقف الأمر على العلوم ذات الصلة المُباشرة بالنص القرآني، بل تعداها إلى المباحث اللغوية التي عُدَّت قنطرة لفهم النص القرآني فهماً صحيحاً، وأُطلق على مثل تلك العلوم صفة علوم الآلة، مقابل علوم الغاية، وليس ببعيد أن يُسلَّط الضوء على النص القرآني من مختلف الزوايا البحثية المتاحة في ذلك العصر، والتوسّل إليه بعدد من الوسائط، من تلك الوسائط اللغة.

وإن لم تكن اللغة يومًا بمعزلٍ عن النص نفسه، بل هي بمكانة القالب الذي تتشكل فيه الأفكار المُجردة قبل أن تتلبَّس لَبوس الألفاظ، وليس أدل على ذلك من المُقاربات اللغوية البحتة للنص القرآني منذ كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى، وليس انتهاء بقراءة الباحثة المصرية عائشة عبدالرحمن، المعروفة باسم "بنت الشاطئ". ففي المقال المنشور في مجلة التفاهم العمانية للباحث الحسان شهيد، والذي حمل عنوان "التفسير البياني عند عائشة بنت الشاطئ: مُقاربة منهجية"، تناول الباحث المنهج والرؤية القارئة للنص القرآني من وجهة نظر بيانية صِرفة، كما في إنتاجات عائشة عبدالرحمن "بنت الشاطئ"، وبدورنا سنعرّج على أهم الأفكار التي طرحها الحسان شهيد في هذا المقال.

في مَعْرِض تبرير اختياره لبنت الشاطئ موضوعًا لمقاربته البحثية هذه، يقول الحسان شهيد بأنَّ بنت الشاطئ هي المرأة الأولى التي فسرت القرآن الكريم في دلالاته البيانية. وهنا نتساءل حول جدّة هذا التبرير وجدواه، فهل كان الباحث يسعى لتأسيس مادة أنطولوجية للبحاثين من بعده ليتمكنوا من الإفادة من مقاربته الواصفة هذه ليقدّموا مقاربات مقارنة بين ما أنتجه الرجال على مر العصور في المجال نفسه، وبين ما أنتجته النساء، وهنا نتحدث بالتحديد عن بنت الشاطئ، ليتضح من ذلك الفارق في المُقاربات الذكورية والنسوية في مستوى البحث اللغوي، وما قد يتداعى عن ذلك من محاولات تفسيرية لسلوك التفكير الذكوري والنسوي. أم أنَّ الحسان شهيد أراد المقاربة البحثية المجردة عن نوع جنس بنت الشاطئ كامرأة، وعند ذلك لا يكون لتبريره كون بنت الشاطئ أول امرأة كتبت في التفسير البياني- لا يكون له معنى منهجي متين؛ إذ العرْفُ العلمي يقتضي تأسيس التبرير على دواعٍ ومسوّغات علمية تضمن استدامة البحث العلمي واستمراره.

وفي معرض حديثه عن البيان والقرآن، قرر الحسان شهيد بأن "ربط دلالة البيان بالإنسان تحيل إلى العلامات الفارقة بينه وبين باقي المخلوقات الحسية"، واستدل لذلك بالآية "خلق الإنسان، علّمه البيان". وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يعني الحسان شهيد بأن البيان، حسب التعريفات التقليدية التي ساقها من المعاجم والاستعمالات المتعددة لها والتي نفهم منها أنَّه تمظهر لغوي، خاص بالجنس البشري وحده، وأنه علامة فارقة بينه وبين سائر المخلوقات.

في الحقيقة، يذكرنا قول الباحث هذا بمجموعة من القوالب اللغوية التي اعتاد الباحثون العرب استسهالها وإطلاقها دون تركيز نظر وإعمال فكر حقيقيين فيها، وهي مشكلة، في نظري، منشؤها بلاغي صِرف؛ إذ إن للبلاغة سمعة ذات دلالات إيجابية في الثقافة العربية، فيلجأ مستعملو اللغة إليها رغبةً في إثارة دهشة المتلقي بما يُلقونه على أسماعه من قوالب لغوية مُدهشة. ولكي نكون أكثر دقة في التوصيف؛ فإننا نعني بالمدهشة تلك التعابير التي تحقق الانزياح في المعنى أو الصورة في ذهن المتلقي حالما يستمع لتركيبٍ لغوي معين، وهذا حسب اعتماد المناهج النقدية الأسلوبية.

فلذلك، يشدد مجتمع البحث العلمي على ضرورة استعمال التعابير ذات الدلالة المباشرة والدقيقة والصحيحة، وليست القوالب التي تتسم بدرجة عالية من البلاغة، البلاغة بمعناها التقليدي. وعليه، فإننا نقول للباحث كيف عرفت أن البيان خاص بالإنسان دون سائر الكائنات، معتمدًا على ما قاله الطبري في الجامع لأحكام القرآن. وإذا سلّمنا جدلا بصحة ما ذهب إليه الباحث، فماذا يقول الباحث عن الجن الذين هم لا ينفكون عن الخطاب القرآني باعتبارهم مخاطَبين به كذلك؛ ألا يندرجون تحت سقف واحد مع البشر في تلقيهم للنص القرآني "اللغوي"؟

استعرض الباحث كذلك البواعث التي دعت بنت الشاطئ لأن تتجه صوب التفسير البياني للقرآن الكريم، ونقل من كلامها ما خلاصتُه أنّ الوقوف على أسرار البيان القرآني أعجز العرب عن الإتيان بمثله. وهنا يحق لمجتمع البحث العلمي أن يسائل بنت الشاطئ، والباحث الحسان شهيد، حول صحة هذا الادعاء من أن العرب لم تأتِ بمثل القرآن، خاصة وأن الذين نقلوا لنا التراث العربي بحمولاته التاريخية ومواقف المسلمين وغير المسلمين من النص القرآني هم المسلمون أنفسهم. وهنا تظهر على السطح مسألة الموضوعية في نقل حقيقة ما حدث، وبالخصوص إذا ما عرفنا أن تدوين السيرة النبوية مثلا والتي تحوي أخبار النبي محمد مع العرب تأخر قرنًا على الأقل، مما يجعل الحوادث تمر عبر ثلاثة أجيال قبل أن تدوّن، وبذلك لا يمكننا اعتبار تلك السيرة وثيقة تاريخية يُعتمد عليها في تتبع أخبار الحوادث في عصر النبي محمد. مجددًا، تُطلَق أحكام جزافاً دون الوقوف على مستند علمي صحيح وموثوق بهذا الخصوص.

كما أورد الباحث سببًا آخر دعا بنت الشاطئ للتفسير البياني للقرآن، ألا وهو أنَّ الباحثين في المجال اللغوي شُغِلوا بالمناهج اللسانية في بحوثهم، فأرادت أن تُعيد للتفسير القرآني جماليته وبريقَه، فجاء منهجها قائمًا على خمسة أسس؛ هي: الأساس الاصطلاحي، والموضوعي، والأسلوبي، والسياقي، والمعنوي، وعند تدقيق النظر في هذه الأسس نجد أنها تعوزها الدقة في توصيفها.

فأما الأساس الاصطلاحي عُني به البحث في دلالات ألفاظ في سياقاتها المتعددة، وهذا لا يطلق عليه اسم الأساس الاصطلاحي، فاصطلاح ما اصطلح على دلالته عند مجموعة من الناس، لاسيما المتخصصين بحقل بعينه. فبنت الشاطئ تتتبع دلالة الجذر وتشكل تلك الدلالة بدءًا من المادية حتى المعنوية فالسياقية، وهذه مقاربة دلالية سياقية. وأما الأساس السياقي فليس ببعيد عن الأساس الأول؛ إذ هو المقاربة المعجمية نفسها للألفاظ في سياقاتها المتعددة.

وأما الأساس الموضوعي فقائم على تتبع ألفاظ الموضوع الواحد في كل آيات القرآن ليكتمل المعنى وتتم الدلالة، وهو منهج جديد كما تقول بنت الشاطئ، مُغاير لعُرْف المقاربات التقليدية. إلا أن الباحث الحسان شهيد لم يدلل على منهج بنت الشاطئ في هذا الأساس، فجاءت الصورة مموَّهة غير واضحة تمامًا.

وأما الأساس الأسلوبي، فتعني به مقاربة عدد من الظواهر اللغوية كحذف الفاعل، واستعمال همزة الاستفهام في الخطاب. وهاتان ظاهرتان أسلوبيتان نحويّتان تركيبيتان، قصر الحسان شهيد عن التدليل لهما مما طبّقت بنت الشاطئ.

وأما الأساس المعنوي فهو ذاته الأساس الاصطلاحي؛ إذ به تفسر بنت الشاطئ المعاني الحسية المتبادرة إلى الذهن بمعانٍ مجازية أخرى مُرادة، والمثال الذي أورده الحسان شهيد يدلل على ذلك.

ختامًا أقول إنَّ بعض الدراسات تُعبّر عن رؤية أصحابها، إلا أنها في نواحٍ كثيرة منها تعوزها الصرامة العلمية المنشودة لكي نخرج بمجموعة من البحوث ذات الأثر العلمي والصدى المقبول في مجتمع البحث العلمي، ولذلك فإني أرى ما قدمه الحسان شهيد بحثًا متواضعاً يقصُر عن أساسيات المقاربات العلمية الصارمة في عدد من المواضع فيه.

أخبار ذات صلة