علم التفسير: نشأته ودواعي تأسيس قواعد التفسير

إبراهيم بن محمد الكندي

في مقاله المنشور بمجلة التفاهم بعنوان (قواعد التفسير: النشأة والتطور والصلة بالعلوم الأخرى) يرى عبدالرحمن الحللي، الأستاذ المشارك في التفسير وعلوم القرآن بكلية الشريعة بجامعة حلب، إنّ لعلم الحديث دورًا كبيرًا في نشأة علم التفسير؛ لأن مرويات تفسير الآيات وبيان أسباب نزولها جزء أساسي من مرويات الحديث، ومن يرجع إلى كتب التفسير المتقدمة يجد أن حجمًا كبيرًا من مادتها عبارة عن أسانيد ومرويات، وليت الحللي مثّل باقتباس نص من أحد كتب التفسير يعتمد على مرويات الأحاديث.

ويجعل الحللي العربية مفتاحًا للعرب والمسلمين في فهم القرآن، ويرى أنّ الصحابة لم يكونوا محتاجين إلا إلى فهم ما هو جديد عليهم، ونرى أن القارئ لأصول الفقه يفهم أن ما نراه معنى سطحيًّا يحمل دلالات دقيقة جعلت الأصوليين يقسّمونها إلى نص ومجمل وظاهر ومؤول، ويخوضون في معاني الأمر والنهي والتخيير، ويجْهدون في معرفة المسكوت عنه.

بعد ذلك يعرج الحللي إلى نشأة "علم التفسير اللغوي"؛ إذ غَدَت العربية وقواعدها المصدر الأهم في تفسير القرآن الكريم، ونضيف إلى كلامه أن هذا العِلْم يُذكّرنا بالاتجاه البنيوي في النقد، ذلك الاتجاه المعتمد على الانطلاق من البناء اللغوي لمعرفة ما يحمله النص من معنى وما يشير إليه من موضوع في الخارج.

ويقول الحللي إنّ تطور المجتمع الإسلامي استلزم الحاجة إلى ضبط قواعد الاجتهاد لاستنباط الأحكام من النصوص استنباطًا يحل مشكلة للنوازل الجديدة، ولكن السلطة السياسية كانت تتدخل أحيانًا في إبداء الرأي في المستجدات، ومن أمثلة هذا محاولتها إلزام الناس بكتاب الموطأ، ثم فرض مذهب الاعتزال. وقد رفض الفقهاء هذا الاستحواذ السياسي على الشأن الديني، وكانت ردّة فعل الإمام الشافعي أن ألّف "الرسالة" لضبط قواعد الاستنباط بعيدًا عن أية أهواء، ويرى الحللي أنّ هذه الضوابط جعلت الدلالة إمّا واضحة (وسمّاها نصًّا) أو محتملة (وسمّاها تأويلًا)، وقد بيّنّا أن الدلالة أكثر تعقيدًا من أن تحصر بين هذين القسمين.

ويذكر الحللي أنّ كتب التفسير لم تَخْلُ من مناهج ذُكِرَ بعضُها في مقدمات المفسرين، منهم عبدالرزاق بن همام الصنعاني، ومحمد بن جرير الطبري، ويرى أنّ الطبري اهتم بالضوابط اللغوية في التفسير، وتطرق الحللي إلى الموضوعات التي تواتر ذكرها في مقدمات التفسير نحو: حكم التفسير بالرأي، والتمييز بين ما يُحْمَد وما يُذَمّ.

إنّ قضية تنزيه الذات الإلهية عن شوائب التمثيل والتشبيه شغلت المتكلمين فاهتموا بضبط العلاقة بين العقل والنقل، وأبْكَرَ المعتزلة في تأويل المتشابه فقد نُسِب إلى بِشْر بن المعتمر كتاب "تأويل القرآن"، ومن المتكلمين الذين عُنُوا بالتأويل أبو الحسن الأشعري في "الإبانة عن أصول الديانة"، ثم فصّل الغزالي (ت505هـ) التأويلَ تفصيلًا كبيرًا في كتابه "فيصل التفرقة"، واهتم بالتأويل بعده تلميذه القاضي أبوبكر بن العربي الإشبيلي فألّف "قانون التأويل"، ثم ابن رشد (ت595هـ) وغيره.

وفي المقابل يذكر الحللي مذهب السلف في التفويض في الصفات وعدم تأويلها، وقد صنّف فيه أبو يعلى الفراء الحنبلي كتاب "إبطال التأويل"، وصنّف ابن قُدامة المقدسي "ذم التأويل" وصرّح أنه مذهب السلف، ولكنّ الإشكال في السلفيين عزوفهم عن قراءة الرأي الآخر وانكفاؤهم على أنفسهم.

واهتم بعض العلماء المتقدمين بإفراد مصنفات تنظيرية تكون مدخلًا إلى علم التفسير، ومن أوائل الكتب في هذا "المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى" لأبي النصر الحدادي (توفي مطلع القرن الخامس الهجري) محاولًا ضبط التفسير بقواعد النحو، وكذلك ابن الجوزي (المتوفي: 597هـ) في "فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن" و"المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن" ذاكرًا أدوات التفسير التي يحتاجها المفسِّر.

ومن العلوم التي احتيج إليها للتعامل مع القرآن: رسم المصحف، وتاريخ المصاحف، وعلم القراءات، ومعاني القرآن، وأسباب النزول. وقد قال ابن عطية الأندلسي (ت542هـ) في مقدمة تفسيره: "إن كتاب الله لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه"، وذكر أبو حيان الأندلسي (ت745هـ) سبعة علوم ينبغي أن يحيط بأغلبها المفسر، وهي: اللغة والنحو والبلاغة والحديث وأصول الفقه وعلم الكلام والقراءات. ونضيف إلى كلام الحللي أنّ أزمة الفتوى اليوم إنّما حصلت بسبب أنّ من خاضوا في تأويل القرآن لم يتسلحوا بهذه العلوم.

إنّ مصطلح "علوم القرآن" ظهر بمعناه الخاص في القرن الثامن الهجري، وهو أنه العلم الذي يجمع المعارف والضوابط التي يحتاج إليها المفسر، وأول من ألف في علوم القرآن بمعناها الاصطلاحي الزركشي (ت794هـ) صاحب "البرهان في علوم القرآن"، وألّف بعده جلال الدين البلقيني (ت824هـ)، وغيرهما كثير. ومن بين علوم القرآن يذكر الحللي فرعين اعتنى بهما المحدثون، وهما "مناهج المفسرين" لبيان مدارسهم واتجاهاتهم، و"أصول التفسير" لضبط التأويل وبيان أدواته.

إن مصطلح "أصول التفسير" ظهر متأخرًا في الهند مع أحمد الدهلوي الهندي (ت :1179هـ)، في كتابه (الفوز الكبير في أصول التفسير) وقد ألفه بالفارسية، وتزامن كتابه مع ظهور مصنفات أخرى تحمل مفهوم أصول التفسير لكن بمصطلحات أخرى مثل قواعد التفسير أو مقدمات إلى علم التفسير.

ويختم الحللي مقالته بالدعوة إلى إحياء "أصول التفسير" باعتبارها نظرة معيارية متماسكة قادرة على مواجهة نظريات التأويل الحديثة والمقاربات التأويلية التي اقتحم بها الحداثيون النص القرآني باسم القراءة المعاصرة.

ونقول في ختام تعليقنا على مقالة الحللي إنّ من أهم كتب "علوم القرآن" كتاب محمد بن محمد أبو شهبة بعنوان "المدخل لدراسة القرآن الكريم"، فقد تعرض فيه للشُّبَه التي أثيرت في قضية الوحي، وردّها بالقواعد العلمية الموضوعية لا بالعاطفة والعصبية، ثم إنّه زاد في كتابه هذا في الطبعة الثانية بحوثًا حول ثبوت النص القرآني بالتواتر المفيد للقطع واليقين، وسلامة هذا النص من التحريف والتبديل، وهي خصيصة للقرآن الكريم لم تحصل لأي كتاب سماوي آخر، وأضاف بحثًا في نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف والرد على شُبَهِ المستشرقين في هذا الموضوع.

وهناك كتاب آخر ينبغي الاستفادة منه فيما يتعلق بموضوع نشأة التفسير ودواعي التفسير وهو "رؤية معاصرة في علم القرآن الكريم" لأحمد ياسوف، فقد أفرد المؤلف فصلًا خاصًّا لمناهج التفسير تعرض فيه لمفاهيم وموضوعات مهمة مثل التفسير، والتأويل، ودواعي التفسير، ومصادره، وأنواعه. وذكر جهود القدماء والمحدثين في علوم القرآن الكريم من لدن المعلم الأول النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

أخبار ذات صلة