محمد الشحي
في ظل الوعي بانقلاب موازين القوى العالمية، وصعود مفاهيم القوى العظمى المنتصرة، الغربية بالتحديد، واستمرارها في التنامي، وازدياد رقعة معتنقي أفكارها المؤسِّسة لهذا التقدم العلمي والصناعي، تطفو على السطح إشكالات، هي من قبيل المسلَّم بها عند الأمم المنتصرة، ويعد الحديث عنها ضربا من اجترار الماضي، كمن يتحدث في مجال علم الفلك مثلا في القرن الواحد والعشرين عن دوران الأرض حول الشمس، لا العكس. يطالعنا الكاتب العُماني عبدالله العليان، في مقاله المعنون بـ"الإسلام ومسألة الحرية في خياراتها المتعددة" -والمنشور في مجلة "التفاهم"- عن إشكالية قديمة متجددة فيما يبدو في الفكر العربي الإسلامي: إشكالية الجمع بين الحرية الفردية وكونه -أي الفرد- منضويا تحت مظلة الإسلام.
يقر العليان بأن فكرة الحرية من أكثر الأفكار اهتماما وتأصيلا منذ فجر التاريخ، و"قد كافح الإنسان وناضل عبر التاريخ لاستعادة حريته". وهنا، أقف لأستوضح نقطة يمكننا إثارتها، خاصة أننا في سياق الحديث عن الحرية ضمن المنظومة الدينية، أعني نقطة: هل الحرية حق أصيل أم هي حق مكتسب يُفاض عليه به. يبدو لي، من خلال استعمال الكاتب تعبير "استعادة حريته" أنه يميل إلى الرأي الأول الذي يقول بأن الحرية حق أصيل سُلب الإنسان إياه، وهو يسعى منذ ذلك الحين إلى استعادته ممن سلبوه إياه. لكننا، عند إكمال الجملة التي تليها، يتضح أن الكاتب يعني بالحرية تلك الحالة المناقضة للعبودية والاستغلال والاسترقاق. وبذلك يضيق مفهوم كبير ليصبح رهنا لتعريفنا للعبودية والاستغلال التي قد تختلف باختلاف وجهات النظر إليها، وهذا ما اتضح جليا عند استدلاله لتعريف الحرية بابن تيمية بأنها العبودية الخالصة لله.
إن الناظر في حال الإسلام، قديما وحديثا، ليقف بإزاء إشكالية ضاربة جذورها في الأساس الذي أقيم منذ بدء الدعوة الإسلامية، مرورا بالمناهج التفسيرية المختلفة لنصوص هذا الدين، فيما يعرف بالمذاهب العقدية والفقهية، وانتهاءً بالقراءات التأويلية الحديثة التي تروم إضفاء صبغة حداثوية على الإسلام. أعني بتلك الإشكالية المشار إليها الحالةَ الازدواجية التي تتمتع بها النصوص الدينية الإسلامية، ما بين داعية إلى حرية الاعتقاد والدين، ومقيّدة لهذه الحرية، نافية لها.
لعل المنبع الذي ولّد هذه الازدواجية، وصيّرها ظاهرة للعيان، هو الانبتات الذي حصل ما بين تلك النصوص وظروفها التاريخية والاجتماعية؛ ففي محاولة تعميم النصوص، وصبغها بصبغة المثَل والحِكمة، ضاعت الحقيقة المؤسسة. فقد استدل العليان بقولة لعمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، غافلا عن الإسقاط الذي أحدثه على مفهوم الحرية من خلال استدلاله بهذا النص. فالحرية التي نعرفها اليوم ليست الحرية التي عناها عمر بن الخطاب في قصة المصري الذي ضُرب من قبل ابن والي مصر لأنه فاز في سباق الخيل، في استبداد واضح وصارخ، واستغلال السلطة لترهيب الناس. فجاءت الحرية المنطلقة من فم عمر بن الخطاب مشيرة إلى نقيض الاستعباد، وهو المفهوم ذاته الذي عرفه العربي من قبل الإسلام، فيما يعرف بالجاهلية. فالإنسان العربي لم يكن يرضى بعبودية كهذه، ويفضل أن يعيش عيشة الوحوش متصعلكا منقطعا عن الديار مقابل ألا يعيش رهن أهواء السلطة.
أما استدلال الكاتب بآية "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"؛ فمعنى الإكراه سلب الحرية، لكن لها ظروفا مختلفة لا تؤسس لمبدأ الحرية كما يروم الكاتب في المقال، خاصة إذا ما نظرنا في عموم الآيات القرآنية، وقدمنا قراءة تتسق مع مجمل ما أتى في القرآن بخصوص الإيمان والكفر؛ وبالتالي الجنة والنار. فالحرية المقصودة هنا هي الحرية التي تتفق والإرادة العليا الإلهية، تلك الإرادة التي أخذت على نفسها العهد بملء جهنم من الجِنة والناس، فكيف ستكون الحال لو آمن جميع من في الأرض، عندئذ لن تمتلئ جهنم، وعليه، فإن الخطاب القرآني لم يجئ لتأسيس مبدأ الحرية بقدر ما جاء لتثبيت مفهوم القضاء والقدر الذي تدعمه الآية التي تليها "وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله". فهي حرية ليست حقيقية، بل موجَّهة ومسيَّسة من قبل إرادة عليا قادرة مطلقة القدرة، وهي حرية تأتي لتكريس مفاهيم أخرى كالجنة والنار، والنعيم والعذاب.
عطف الكاتب على مفهوم الحرية في الإسلام، بحديثه عن تجليات هذا المفهوم من خلال مقاربة عدد من التطبيقات التي تشي بأصالة الحرية في الفكر الإسلامي، وتدعّم دعوى وجود هذه القيمة الإنسانية العظيمة. وأول ما طرح الكاتب مثالا على ذلك، مسألة حرية المعتقد، وبنى العليان على مفهوم الحرية بأنها ممارسة الإنسان لخياراته ومراداته دون إكراه، مقرًّا بأن الإسلام الذي هو دين الفطرة يحمي في الإنسان حريته واختياره. واستدل على ذلك بالواقعة التاريخية التي عانى فيها المسلمون في فترة مكوثهم في مكة مستضعفين، منادين بحرية الاعتقاد والدين حتى استقر لهم الأمر في النهاية، وأضاف بأن المسلمين اعترفوا بهذا الحق كاملا لأصحاب العقائد الأخرى.
كم يكون سهلا أن تناشد بحرية المعتقد والدين على المستوى التنظيري البحت عندما تكون مجردا من سلطة تعطيك صبغة الشرعية الواقعية، فتبدو كل مقالاتك مثالية وخالية من التشنج والعدائية للآخر المختلف والذي قد يكون سببا في القضاء على بذرة فكرتك (في هذه الحالة هي الإسلام). على أن النصوص القرآنية لم تخلُ من ازدراء الأديان الأخرى، لاسيما الوثنية، فمعتنقوها نجس، وأحيانا هم كالأنعام، بل أضل سبيلا.
وإن كان جانب من كلام الكاتب صحيحا فيما يتعلق بالديانتين اليهودية والمسيحية، فإن مرجع ذلك لكون ثلاثتهم يستقون من منبع واحد، أو هكذا يدعي المسلمون، ولا يشاركم في ذلك المسيحيون، فضلا عن عدم اعتراف اليهودية بهما كليهما. فهذه الأديان -من وجهة نظر الإسلام- أديان سماوية، لها كتب هي بمثابة كلمات الرب، كما أن أنبياءها ينتسلون من نسل واحد. وبالتالي فإن الإلغاء الكلي لهاتين الديانتين يجعل الإسلام في مأزق وجودي.
وعندما نهى القرآن عن سب الذين يدعون من دون الله، في دعوة صريحة لاحترام الآخر وتقبل اختلافه، فإنه علل ذلك ببراجماتية واضحة "فيسبوا الله عدوا بغير علم". الأمر الذي يجعلنا نتردد قبل قبول فكرة أن الإسلام فرض على الجماعات الدينية أن تحترم بعضها بعضا.
أما ظاهرة حروب الردة، وما انبنت عليه من حد الردة والحرابة، فقد التفّ الكاتب عند الحديث عنها على الحقائق التاريخية، مستعينا ببعض المفكرين الذين قدموا قراءات تأويلية حداثوية للإسلام. فحروب الردة إنما كانت على أولئك الذين شكّلوا خروجا على قانون الدولة، وأخلّوا بالأمن العام لها. لعمري، كيف يسيغ تقبّل هذه الفكرة، ونحن نعلم بأن أبا بكر حمل السيف على كل من منع الزكاة، والذي نفترض أنه حرية سلوكية اختارها من اختارها، وبالتالي فإن حروب الردة إكراه وسلبٌ لحرية الإنسان، اعتمادا على التعريف الذي قدمه العليان نفسه في المقال.
إلا أن الكاتب يقارب تلك المسألة مقاربة أخرى، يقول بأن دولة الإسلام في تلك الفترة كانت تقود حروبا ضد الروم ومشركي العرب، وعليه يعد مانع الزكاة خائنا للوطن ومتواطئا مع العدو زمن الحرب. من الواضح أن العليان يرى الحرية من منظور مفارق للمنظور الحديث المؤسس له، أعني المنظور الذي تبلور فيما بعد الثورة الفرنسية، واستقام عوده بعد الحرب الكونية الثانية، وهو أن حرية الفرد حق أصيل كامل الأصالة للفرد، ولا تتوقف هذه الحرية في سبيل الجماعة، فالفرد من أجل الفرد، لا من أجل الجماعة، بل إن الجماعة هي من تكون من أجل الفرد. وبذلك لا نستغرب أن يرى الكاتب الخيانة العظمى لفرد، أو قبيلة، ارتأت موقفا مخالفا بإرادة تامة.
وختاما.. إن الحديث عن مفهوم الحرية، بالمعنى الذي طرحه الكاتب، لهو حديث مدعاة إلى المفارقة التاريخية والعقلية؛ فالأديان -لاسيما الإبراهيمية- تقوم على الاستسلام المطلق في كثير من النواحي.
