ولـيد العبري
في مقاله "الخطاب الصوفي بين الهوية والاختلاف: الأنا والآخر" والمنشور بمجلة "التفاهم" يُشير الكاتب أحمد بوزيان إلى قضية حساسة ومهمة مرتبطة بأثر الخطاب الصوفي بين الهوية والاختلاف، مشيرًا إلى أن هذا النوع من الخطاب يمارس حقه في الاختلاف، ويستند إلى الأصول التي يستمد منها الخطاب الرسمي، وتبقى القراءات التي تختلف باختلاف آليات الفهم والإدراك، ونجد الآن أن الخطاب الرسمي قد تحول من قراءة إلى معيار، ولابد للخطابات الأخرى من عدم مخالفته أو مغايرته.
ما تم معرفته أن الحركة الصوفية عاشت نوعا من التهميش والإقصاء، وهذا ما جعلها خارج نطاق التاريخ الرسمي، وجلبت معايير خارجة عن نظام بنيتها المعرفية المتعارف عليها، ومن هنا وصفت بـ" آخر" مناقض للأطر المعرفية المتعارف عليها، ولقد تم عزل الحركة الصوفية وعزلها عن الجسم الفكري الاجتماعي.
أصبحت الصوفية "الآخر" منبوذة اجتماعيا؛ والسبب وراء ذلك يعود إلى سبب تسمية الصوفيين أنفسهم بأهل الباطن، مُقابل الذين يسمونهم أهل الظاهر، ونتج هذا بنوع من التقصي والتبرير، وارتبط ارتباطا بمجموعة من الدلالات التاريخية والمعرفية، أو السلطوية والأيديولوجية، ونتج عن ذلك اختلاف الرؤى والتصور ومفهوم اللغة والمفهوم الفكري العام.
وأسس المتصوفة نظاما معرفيا خاصا بهم، بحيث إنهم –مهمشون- مقابل المؤسسة الرسمية، التي فرضت نفسها بحجة القوة لا بقوة الحجة؛ إذ الثقافة الرسمية في المركز، والآخر في الهامش، وظلت ثنائية "المركز والهامش"، والثقافة الرسمية تتقيد بالقوانين، أما الثقافة الصوفية فهي الهامش في خروجها عن هذه المعايير والقوانين.
والنص الصوفي يتسم بالغموض والعتمة ووصف بأنه غائم، وكل خطاب يفقد وهجه بقدر ما يبوح، فتتقلص شروط بقائه، من هنا أعطى الخطاب الصوفي الحضور والامتداد باختلاف الأزمنة، والثقافة والمتلقين، أن مصطلح الأنا لا وجود لها إلا من الآخر، والذي تكون به المغايرة والاختلاف، وتتمايز الهويات من خلال مفارقة الأنا والآخر، ولكي تعرف الآخر لابد أن تراه من حيث هو وليس أنت!!
اعترافا بالأنا واعترافا بالآخر في الآن ذاته.
الفكر المنطقي يبرهن على وجوده من خلال جدل الأنا، مع الفكر "العقل المنطقي" إذ إن الإنسان حين يفكر دل على وجوده، وهذا يكمن في أن الأنا المفكرة هي الأنا الموجودة، وهذا ينفي الصوفي؛ إذ إنه لا يبرهن على وجوده من خلال التفكير، فتغيرت المعادلة الصوفية إلى معادلة أخرى تتماشى مع الآخر بقول "أنا الآخر".
يتعذر وجود الأنا دون الآخر، فقد يكون الآخر موجودا في الأنا، والآخر قد يكون هو المغاير جنسا، وذاتا، وعقيدة ووطنا، والآخر ليس بالضرورة كونه بعيدا جغرافياً، ويمكن للذات أن تنقسم، وتحارب بعضها البعض الآخر، إذ يوجد اختلاف في نمط المعرفة، ولا يوجد هناك نمط للمجتمع الواحد المنسجم، فالمختلف ليس بالضرورة من يغايرنا في الجنس والعقيدة، إن مفهوم الهوية مرتبط بالمؤتلف الأنا، والمختلف الأنا الآخر، فأصبحت جميع المفاهيم التعبيرية شرعية، وهذا بدوره مرتبط بمفاهيم البحث العلمي الدقيق.
إن تصادم المعرفتين الرسمية والصوفية هو تعارض نظامين، وبنيتين مختلفتين متغايرتين ومتناقضتين في الطبيعة، وهذا ما جعل علماء الظاهر يعترضون على الطبيعة الصوفية، ونظامها المعرفي، والاعتراض أتى من باب خلو المعرفة الصوفية من الضوابط والحدود، وأن دعوى التصوف تحتاج إلى برهان، باعتبار أن الإلهام دعوة مجردة تحتاج إلى دليل. ويحاول ابن حزم جاهدا قراءة التصوف بالمنطق والعقل، أي قراءة العرفان بالبرهان. والمعرفة الصوفية لا تقوم إلا على مناقضة العقل وإلغائه؛ لأنها لا تأتي إلا في غيابه، وهذا ما يسمى بالذوق، وهو مسألة ذاتية، والتجربة سبيل له. وقد ميز الصوفية اختلاف مستويات المعرفة والإدراك، وقالوا بأن المعرفة: عبارة عن ظاهر يطفو على سطح، وباطن يتوارى فيه المعنى إلى الأغوار.
إن المتصوفين لم يكونوا مجافين للعقل مجانًا، أو جزافا؛ إنما اعترضوا على استخدامه فيما لا يجوز له، ورفض العقل من المتصوفة، ليس عجزا منهم عن استخدامه، أو عدم التحكم في آليته، وإنما هي بنية النظام المعرفي الصوفي. والغزالي كان أكثر انبهارا، حيث خبر الفلسفة والمحاججة والرد بالبراهين، وينتقد نقد الخبير، فقد كان خبيرا عقلانيا من الطراز الرفيع النادر، وعزف عن المنهج البرهاني.
القضية هنا لا تعني أن المتصوفين عاجزون عن استخدام ومسايرة العقل والمعقول؛ وإنما يرجع الأمر إلى طبيعة النظام المعرفي الصوفي الذي يقوم على المغايرة تمامًا عن بنية العقل.
ويزيد المتصوفة من تهوين شأن العقل في الأمور الذوقية، فالمعارف تكون غير ملزمة، وإنما هي حالات يعيشها الصوفي وينازلها لا ذوقا، فيولد نوع من التوتر خارج عن إدراك العقل، ولذلك فهي حالة ذوق، والذوق خاص وليس عاماً، والمعارف تختلف باختلاف الحال والمقام، وكبار الصوفية لم يجعلوا معارفهم تشريعا ولا لزامًا لغيرهم، حسب رأيهم ببلوغ التأحد الصوفي والذي تصبح فيه المعرفة الإلهامية نتاجا وليس غاية.
الملاحظ من خطاب التصوف أنه يؤمن بالآخر، ويؤمن بالاختلاف؛ من حيث الأصل والوحدة، لهذا كان ابن عربي ظاهريا في العبادات، باطنيا في السلوك والأذواق، ولقد كشفت لنا "الأنا " عن التسامح والاعتراف بحق الاختلاف، وتعامل المتصوفة بالباطن، فإنهم لم يلغوا الظاهر، وتعاملوا مع الطوائف الأخرى من باب المغايرة والاختلاف.
إذا كان الاختلاف في شؤون المجتمع والحياة هو اختلاف مصالح، وأعراض، فإن الاختلاف في شأن الدين والعقيدة هو اختلاف تأويلات، يفرضها اختلاف الرؤى والتصورات، واختلاف الخلفيات والمرجعيات، إن المتصوفة لا يشغلون أنفسهم بالرد أو الاعتراض أو المساجلات والمناظرات. ولقد كانت القراءة الأحادية لا تنتج شيئاً أكثر من إعادة النص نفسه، ولذلك فهي تتماهى ولا تتغاير، تتوحد ولا تختلف، وبناء على ذلك فهي ترفض الآخر ولاتحاوره.
الهوية ليست تماهيًا، وإلا لكان المجتمع تكرارا ونسخا واجترارا، ولا تنتج إلا الأنا المتشابهة؛ فالهوية كينونة منغلقة، ولا تقوم على مبدأ التجانس، بل تقوم على مبدأ التغاير والاختلاف، والمختلف يكون دوما داخل الوحدة. ويحدث تجديد للعلاقة داخل التغاير، بتجديد بين الأنا والآخر، إما بالتواصل أو الانفصال، وهذا قد يتيح تضخم الأنا، أو الاعتراف بالأنا والآخر، وقبول التعدد والتنوع، والاختلاف يعطي طبيعة أكبر للتجديد، وفرصة للترجيح؛ فقد يقبل هذا أو يرفض ذاك، ولابد من المساواة. والهوية ليست إنتاج الشبيه، وإنما إنتاج المختلف، وليست الواحد المتماثل، وإنما الكثير المتنوع، وهي إبداع دائم. ومع كل هذا نجد أن الاختلاف هو واقع يفرضه الوجود الإنساني وتنوعه، والاختلاف حق لكل حق يقابله من واجب، ولابد أن نعيش لننتج، ولنفكر لنبدع، لنرسم شيئا جديدا، ولا نعيش من أجل الاختلاف وإنما نعيش من أجل التوافق الدائم. إذا خالفت فإنني إلى توافق أعظم وأكبر، ولابد أن نختلف لكي نفهم، وندرك ونفكر، ولا نقدس الاختلاف لذاته. والاختلاف ليس هدفا بقدر ما يكون غاية عميقة ومؤثرة في إقامة جسر التواصل والتفاعل، والاختلاف لابد أن يكون داخل الائتلاف، وهو مايشكل مفهوم الهوية.
