محمد الشحي
شكلت الأديان -بجميع تمظهراتها على مدى تاريخها الطويل- إشكالا مؤرقا للباحثين اللاهوتيين المعدودين ضمن دائرة المتدينين، والمفكرين الذين يراقبون مشهد الدين من خارجه، والفلاسفة الذين يقرأون الدين كأحد حقول الفلسفة، حقل الأخلاق. ومع كل التجاذبات تلك، المختلفة في مشاربها ورؤاها، التي تنتج عنها قراءات تصل إلى حد التناقض فيما بينها، يطل علينا الباحث المصري إميل أمين بمقال بعنوان "دور الأديان في سيادة مفهوم السلام العالمي" -والمنشور في مجلة "التفاهم"- ليعيد طرح الإشكالية ذاتها، أعني إشكالية "الدين" في وجوديته.
لطالما تساءل الباحثون في طبيعة الأديان، في مرحلة ما بعد اللاهوتية، حول الجدوى من طرح السؤال نفسه في كل مرة: هل يمكن أن يكون حل مشكلات العالم الجديد في الأديان؟ أو أن التفكير الإنساني تجاوز مرحلة العقل الديني في تطوره ليحل ركائبه في مرحلة العقل العلمي دون أوبة لما كان قبله؟ أقول إنَّ الباحثين سئموا من السؤال نفسه؛ وذلك ناتج -فيما أرى- عن الفجوة الكائنة في قراءة الأديان فيما بين مفاهيم زمن إنتاج النص الديني، وزمن إنتاج القراءة الحديثة له؛ لذلك تبدو القراءة الحديثة للنص الديني مَسْخا يحاول الجمع بين متناقضات، خاصة إذا ما قارنّا هذه القراءات بتلك المنتمية للتراث والقريبة نسبيا من زمن إنتاج النص.
وتنطلقُ القراءات النابعة من داخل دائرة الأديان من مُسلَّمة أولى، مفادها أن الدين صالح لكل زمان ومكان، وهو ما أشار إليه إميل أمين في مقاله. إضافة إلى مسلمة أخرى تقول بضرورة المسألة الدينية للنفس كأفراد، والبشر كجماعات. إلا أنني لا يسعني أن أسلِّم بهاتين المقدمتين دون تساؤل عن وجودية الأديان في زمن الحداثة، وما بعد الحداثة. إن الدين يشكل مكونا من مكونات الهوية البشرية منذ حقب تاريخية قديمة؛ منذ إنسان النياندرتال الذي وجدت له آثار دُفِن فيها الإنسان بوضعية الجنين داخل الرحم وكأنه يُهيَّأ لولادة أخرى، وحياة جديدة.
إنَّ هذا الوعي الإنساني يدلنا على وجود جذور التفكير الديني عند ذلك الإنسان القديم، لكنَّ السؤال الأهم هنا: ما الظروف التي ولّدت التفكير الديني حسب تلك المكتشفات؟ بكلمات يسيرة، إنها الحاجة النفسية للتعويض عن حالة الفقد المتمثلة في الموت. فإذا كانت الحاجة النفسية المنبع الأقدم لظهور الأديان، فإن ذلك يعني حضور جذور للتفكير الأخلاقي عند البشر، وإذا عرفنا ذلك، استطعنا وضع أيدينا على البنية المؤسسة للأديان؛ مما يجعلنا قادرين على قراءتها وجوديا، أي قراءة الظروف المؤدية لوجوده، وإسقاطها على زمن الحداثة المعاش، لقياس مدى الحاجة النفسية الإنسانية له في ظل تطور العلوم النفسية، وصياغة مواثيق أخلاقية دولية مثل حقوق الإنسان والطبيعة وغيرها التي تُعدّ من المواثيق الوضعية حسب التعبير الديني الإسلامي، وفي هذا إشارة إلى مرتبة دونية مقارنة بالقوانين الشرعية.
تحدَّث إميل أمين عن مفهوم السلام العالمي، ودور الأديان في سيادته، عن طريق مقاربته للأديان الإبراهيمية الثلاثة (اليهودية، المسيحية، والإسلام)؛ ساعيًا وراء إبراز الأديان كحاضنةٍ للسلام العالمي في مدوناتها الكبرى: العهد القديم، والعهد الجديد، والقرآن. وحسب رأيه، فإنه إذا ما اتضحت لعموم البشر هذه الحقائق فسيحقق ذلك السلام الحقيقي بين الأمم، لا السلام البرجماتي المؤقت القائم على المصالح الاقتصادية والأمنية.
وفي سبيل الخوض في موضوع المقال، يحدد الكاتب مفهوم السلام بأنه نقيض العنف اللفظي والجسدي، وأنه الحالة الأصلية في كيان الإنسان، وأن العنف والتطرف إنما هما حالتان طارئتان. لا يخفى أن هذه الرؤية مثالية، غير مبنية على حقائق التاريخ التي تُظهر بجلاء لا يمكن معه الإنكار أن أزمنة السلم أقصر بكثير من أزمنة الحرب؛ فكيف ستكون حالة السلام أصلية ومستبعدة في الوقت نفسه، ويكون العنف، والحرب، طارئًا وممتدا في الآن نفسه. إلا أن الكاتب يستند في نتيجته هذه إلى قصة وردت في كتب الأديان، قصة ابنَي آدم المعروفة. ليبرز سؤال آخر: هل المقصود من القصص الديني أن يؤرخ لحوادث بعينها؟ أو أنها صيغت لتمرير قيم أخلاقية وإبراز حالة النفس البشرية؟ أو أن المقصود منها هو كلا الأمرين؟
ومن أجل محاولة مقاربة هذه الأسئلة، على الباحث أن يضع بعين اعتباره طبيعة القصص الديني، وأنها شفهية بالأساس؛ أي أن حالها من حال القصص الشعبية المروية، وأما تدوينها فأمرٌ لاحق. وكما يقرر النقاد، فإن القصص الشعبي عابر للأمكنة والأزمنة، مع ميزة تغير بعض التفاصيل فيها وفقا لثقافة المكان الذي انتقلت إليه. وغنيٌّ عن الذكر أن منبع هذه القصص غابر غير معروف بالضبط. وهذه الحقيقة إذا ما أسقطناها على القصص الديني، سنجد أنه لا يتخلف عن القصص الشعبي؛ فقصة النبي نوح التي وردت في العهد القديم بصيغة مختلفة بيسير عن رواية القرآن، نجدها في ملحمة جلجامش التي هي أقدم من هاتين الديانتين، لكنْ تغيرت أسماء الشخصيات فيها. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار قضية الأسر البابلي لليهود -قبل تدوين التوراة- نجد أنه من المنطقي أن تستدل هذه القصة طريقها وتضع لها مكانا في التوراة التي كتبت بعد الأسر البابلي.
وهكذا.. نستطيع استبعاد أن يكون فرضية أن يكون القصص الديني مؤرخا لحوادث بعينها، فيبقى أنها صيغت لتمرير قيم أخلاقية من ورائها. فإذا كان الأمر كذلك، فلا أظن أنه يمكن التسليم بنتيجة بحثية، تدعي التماس العلمية، انبنت على قصص ديني، مثاليّ بالضرورة؛ لأن المثالية لا تصف الظواهر كما هي، بل كما ينبغي أن تريدها بمعيارية صارمة.
وبعد أن أظهر الكاتب مفهومه حول السلام، بدأ يُسقطه على الديانات الإبراهيمية الثلاث من خلال مدوناتها. وقد أورد عددا من النصوص التي تبدو للوهلة الأولى غاية في الإنسانية والمحبة، من قبيل الحث على السلم والوصول إلى الملك دون قتال، وتحويل السيوف إلى معاول ومحاريث. إلا أن هذا يصطدم بفكرة راسخة في الفكر اليهودي، فكرة أنهم هم فحسب أبناء الله، وهم الوارثون لمملكته، وأن ما سواهم "أمم" أقل درجة منهم. وهذه فكرة تحمل عنفا غير جسدي من حيث الإقرار بدونية الآخر لا لسبب سلوكي، بل لسبب عقدي ديني. وهذه المشكلة موجودة في نصوص الديانات الأخرى؛ كوصف الآخرين بالأنجاس مثلا.
ومع هذا الطرح المثالي، لا يغيب عن الكاتب الحديث عن الحروب الصليبية التي كانت باسم المسيح، وسيل الدماء الذي جرى لأجل حروب إقطاعية، حسب تعبيره. وهذا صحيح، إلا أنه أيضا لم يتطرق لقضيةٍ إشكالية في التاريخ الإسلامي، إشكالية ما يسمى بالفتوحات، التي لا تختلف في شكلها ومحتواها عن الأولى.
... إنَّ محاولة إظهار الجانب المشرق من الديانات، لاسيما الإبراهيمية، تستدعي إلى الذهن مشكلة أخلاقية في التعاطي مع الحقائق التاريخية، فإغفال جانب دون آخر، وتقديم نصف الحقيقة، يعد فعلا غير أخلاقي، وقد يتسبب بحالات من النكوص النفسي التي تنشأ عقب اكتشاف الجزء المغيب من الدين. ولأجل هذا يقترح الكاتب تقديم قراءة أخرى مغايرة للنصوص الداعية للعنف في تلك الكتب، ويقترح تحديدها بظروف تلك الحوادث، وإنْ جاءت بصيغ عامة تمكّن كل من له إرب باستعمالها لإضفاء الشرعية على العنف الذي ينتويه. أما عن رأينا، فأقول -جوابا عن سؤال: هل الحل في الدين؟- إن الحل في المضي قدما بالاهتداء بالمواثيق الأخلاقية الدولية الحديثة.
