وليد العبري
"هكذا أصبح العالم المادي الذي يزداد فيه الفقر والجوع والمرض والجهل والتطرف والتعصب والإرهاب، بجانب الكوارث الطبيعية والاجتماعية، إنه لأمر غريب وشاذ في يومنا هذا؛ حيث أصبحت المنجزات العلمية مُسخَّرة من أجل المكاسب المادية، يبدو أنَّ هناك ارتباطا وثيقا بين السعادة الدنيوية الناتجة عن إدراك العالم والاتصال بالعقل، والمكاسب المادية التي بدورها أعاقت معنى السعادة"، هذا ما أشارت إليه سعاد الحكيم الباحثة الأكاديمية في مقالها عن قيم المعرفة والسعادة بين ابن طفيل وابن باجة، والمنشور بمجلة "التفاهم".
وقد أشارت سعاد إلى أن السعادة الذاتية في مدن فاسدة، أي تهتم بالمكاسب المادية، وتنتشر فيها الجرائم الدنيوية، تبدو فاقدة لقيمة أساسية من قيم السعادة، وهي "الشراكة" وفي الوقت نفسه أصبحت كلمة السعادة فاقدة للمعنى الإنساني الشامل والممتد، وأصبحت تخلو نوعا ما من اللذة والفرح، الجيل الآن يبدو أكثر تأثرا بالمشاعر والأحاسيس، والتي بدورها كفيلة لهم عن طلب السعادة، وتمثل السعادة في مجملها: الرضا عن الذات، الإلحاح في طلب الرزق، الطمأنينة والأمان، من أجل إلقاء نظرة لضمان المستقبل للخلو من الالتياع النفسي والألم البدني.
ومن أجل الحصول على سعادة عقلية وروحية تغير المذاقات البشرية، فقد أشارت سعاد الحكيم إلى فيلسوفيْن أندلسيين أعلن كل واحد منهما عن رتبة السعادة المطلقة، والتي كادت تخلو من الألم -وهما ابن باجة وابن طفيل- وقد قسَّمت الكاتبة سعاد الحكيم موضوعها إلى أربعة أقسام؛ أوضحت من خلالها الارتباط بين الفيلسوفيْن ومعنى السعادة.
- القسم الأول: حياة ابن باجة وكتابه "تدبير المتوحد"، وحياة ابن طفيل وكتابه "حي بن يقظان".
- القسم الثاني: قيم المعرفة لكل من الفلاسفة.
- القسم الثالث: علاقة الإنسان ورتبة العلم والمعرفة بالمحيط البشري والتواصل الإنساني.
- القسم الرابع: بيان سعادة الفلاسفة ومنظومة قيمها.
حياة ابن باجة وابن طفيل:
ابن باجة.. فيلسوف أندلسي، عُرف بالثراء والرفاه والمجد، ودخل السجن وتعرض للاتهام في دينه وفي علمه، وقد استغل كتب الفلسفة التي ظهرت من قبله، أما بالنسبة إلى ابن طفيل فعُرف بتفوقه على الفلاسفة من سابقيه ومعاصريه، إلا أنه لمح بأن خزائن علمه لم تظهر بسبب عائقيْن؛ هما: موته الباكر، وحبه للدنيا.
قيم المعرفة لابن باجة وكتابه "تدبير التوحيد":
قدم ابن باجة كتابه تدبير التوحيد، ليقدم الحل الفلسفي الاضطراري لكل عاقل أحس أنه وسط مدينة جاهلة وناقصة، بحيث لا تستند أفعال مواطنيها إلى العقل، يبدأ ابن باجة بتوضيح معنى "التدبير" ترتيب أفعال نحو غاية غير مقصودة، والتدبير لا يوجد إلا في الإنسان؛ لأنه يشمل الفكر، لذلك نجد دائما معنى تدبير المهن، تدبير المدن، تدبير المنزل لأنها ترتبط بالفكر دوما، وقد يكون التدبير صائبا أو خاطئا.
وقد وجه ابن باجة نظرة جميلة لكل من الفارابي وأرسطو وأفلاطون، ليوضح كيف أن المدينة الفاضلة متكاملة، تجمع بين أشخاص يسود بينهم معنى التشارك والمحبة، وأنهم دوما على صواب فهم لا يتشاكسون، أراؤهم كلها صادقة، فلا يتميز كل واحد منهم بالصدق والفضيلة لأنهم كلهم واحد، ويرى ابن باجة أن جميع المدن المعاصرة له في ذلك الزمان، كلها ليست كاملة؛ بل هي مركبة من المدن الأربع الفاسدة: (الجاهلة، الفاسقة، المتبدلة، والضالة)، وهذا ليس بمعنى المدن الفاسدة نفسها، بل تعود إلى غياب الأصناف الثلاثة من الناس في المدن الفاضلة؛ وهم: الطبيب، القاضي، النابت؛ حيث لا تظهر هذه الأصناف إلا في وجود المدن الفاسدة، وعندما يشيع الفساد تصبح السعادة العامة مستحيلة، وتبقى السعادة المفرد موجودة.
وهنا.. يبرُز الحلُّ الفلسفيُّ للعاقل في مدينة يعمُّها الفساد في العلم والعمل معا، وكيف للعاقل أن يزيل عن نفسه الأعراض التي تمنعه من السعادة.
ويُبرهن ابن باجة على ثنائية الإنسان، حيث إنه فاسد بطبيعته الهيولانية، وسرمدي روحاني بطبيعته العقلية، ولاينال السعادة إلا باتصال العقل الإنساني بالعقل الفعّال.
قيم المعرفة لابن طفيل وكتابه "حيّ بن يقظان":
يحاول ابن طفيل أن يوضح في روايته الرمزية، مسيرة العقل البشري المستقل عن الدين في بحثه عن حقائق الوجود، وأدلى بقصة تتكون من سبع مراحل لحياة حيّ بداية من ولادته ونشأته ورضاعته ليكمل عمر السنتين، ويتقن بعض الكلمات حينها، ثم يجتاز السبع سنوات ليعرف معنى الموت وقيمة الروح، ثم انتقل ابن طفيل ليضرب مثال موت أول إنسان في تاريخ البشرية "هابيل" ليتعلم من الغراب كيفية التعامل مع الموتى، ويواصل سرد حياة حيّ إلى أن يصل لمعرفة الحقائق الكبرى، والتي توافق الشريعة الإسلامية.
وهكذا.. يروي ابن طفيل بلغةٍ بسيطة مسيرة العقل البشري من بداياته في تلمس عالمه وتجريده من معانٍ ذهنية وصو رعقلية، ثم يمد بصره إلى التفكر والتأمل والوصول إلى وحدانية الله وعبادته وحده.
قيم المعرفة بين ابن باجة وابن طفيل:
إنَّ المعرفة الحقّة هي قيمة إنسانية عظيمة مرتبطة بقيم أصيلة، ما زالت في سلَّم الحق والخير.. نستعرض منها:
1- طلب المعرفة والاستعداد للتعارف:
لابد لطالب المعرفة أن يكون مستعدا للتعارف مع الموسومين بالعلم من أهل زمانه ومكانه؛ حيث نجد أن ابن باجة كان مُستعدا للتعارف والاعتراف بالفكر اليوناني الفلسفي كأفلاطون وأرسطو، وابن سينا والفارابي، كما يتبدى أيضا لابن طفيل بطلب العلم والمعرفة والاستعداد للتعارف.
2- الإيمان بقدرة العقل على المعرفة:
إنَّ الشك بقدرة العقل على المعرفة يعطّل مسيرة العلوم؛ لذا نجد معظم الفلاسفة حين ينتابهم الشك يسترجعون إيمانهم بالعقل ليتمكنوا من متابعة صورهم العقلية، ويصر ابن باجة في كتابه على استقلال العقل عن الدين، ليس فقط في جانب الطبيعة، وإنما أيضا إلى ما وراء الطبيعة، ويجد أن الفيلسوف يستغني عن النبي لأنه يأخذ عن الله مباشرة، كما يربط ابن باجة بين المدينة الكاملة والسعاده وتأثيرها
3- الإبداع والمسار الذاتي:
نجد فلسفة ابن طفيل وابن باجة قد استمدت من أرسطو وأفلاطون وابن سينا، لذلك اتصفوا بالإبداع والمعرفة، ابن باجة يذكر اسمه دوما مع المتوحّد، وابن طفيل تميز بسرد روايته الرمزية بإبداع فلسفي، فاستفاد من قدرة الرمز العابرلحدود الزمان والمكان واللسان، ليسجل اسمه من ضمن الفلاسفة المبدعين.
4- التراكم والتطور:
إنَّ تراكم المعرفة وتطورها من القيم الضرورية؛ لذا نجد العلوم التطبيقية والإنسانية لم تتطور إلا بفعل التراكم في الكم المعرفي، وقد التزم ابن طفيل وابن باجة في التواصل المعرفي فاهتمَّا بنتاج الفلاسفة السابقين.
5- تمرير المعرفة وحسن توصيلها:
تمرير المعرفة واجب أخلاقي على كل صاحب معلومة مفيدة للناس؛ لذا نجد ابن باجة له تلامذة يدربهم على الفلسفة، ويمرر معرفته لللاحقين من بعده، وابن طفيل كذلك مرر معرفته من خلال الكتابه الفلسفية وتدوينها.
6- توليد الفضيلة:
إنَّ المعرفة الحقّة تولد فضيلة، وهناك رابط بين العلم والفضيلة نبَّه عليها القرآن؛ مثل: خشية العلماء مساواة غيرهم بهم ومآلهم إلى السعادة، وربطوا الفلاسفة بين المعرفة والفضيلة فالذي يعرف الخير يفعله ضرورة، والذي يعرف الشر يجتنبه لا محاله!
7- الحوار وقبول الرأي الآخر
لقد مارَس ابن طفيل أسلوبَ الحوار مع الفلاسفة، وقد أخذ لغة الكلام الإنساني، وبواسطة الحوار توصلوا لتبادل المعارف والخبرات، وأدركوا أنهم مُتشابهون مُتقاربون وإن سلكوا دروبا مختلفة.
وأخيرا.. يُمكن القول إنَّ جميع القيم السبعة السابقة جوهرية في بناء معرفة حقيقة أصيلة في وجدان الإنسان وقادرة على تغييره، وتغيير المحيط البشري، ونجد أن كلا من ابن باجة وابن طفيل قد حققا هذا النتاج الرائع من القيم، وهناك قيم سلبية تتنافى مع هذه القيم الفضيلة؛ منها: الاستعلاء المعرفي والقطيعة مع العامة، ونجد الفيلسوفيْن في كتبابيهما يصلان إلى معنى السعادة مرتبطة بجملة من القيم التي يتبناها الإنسان، ويعيد صياغتها في إطاره الشخصي، والباحث عن السعادة يأمل في تحصيل حالة وجدانية سرمدية، وللسعادة معنى مطلق يسري في كيان الإنسان، ويختلف عن اللذة التي قد تزول بمرور الوقت.
