عبدالله الشحي
في المقال الذي يحمل عنوان "سيف بن عمر الأخباري والمؤرخ" يتحدث ويلفرد مادلونغ عن سيف ويُعتبر سيف بن عمر إخباريا ومؤرخا أثير حوله خلاف كبير بين من تسلم رواياته بالقبول وبين من أنكر عليه ولم ينقل عنه قديما وحديثا، وتعرض لاتهامات ليس أكبرها أنه "ذو خيال جامح" لكن بعض الباحثين أوجب معاملة رواياته كما يتم معاملة روايات غيره حتى ولو كانت طريقته في الرواية مختلفة. خلال المقال يظهر الكاتب نماذج من روايات سيف ويبين في مقارنات مدى الاختلاف بين ما يرويه سيف وغيره من الرواة حول القصة الواحدة.
تشكل قضية حفظ التاريخ وتمريره للأجيال القادمة مجالا مهما وواسعا بالنسبة للعاملين فيه والمشتغلين بتدوين وحفظ التاريخ وأيضا بالنسبة لمختلف المتلقين لما تم حفظه، والأمة الإسلامية يعنيها بشكل أساسي نوعان من الأحداث التاريخية، أولا ذلك النوع المتعلق بالدين الإسلامي والتشريعات والفتوحات وسيرة النبي الكريم ونزول القرآن وأحداث فترة الدعوة عمومًا، ثم النوع الثاني المتمثل بالأحداث اللاحقة لوفاة النبي بمختلف أبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية والعسكرية، فالنوع الأول هو الأهم بالنسبة للمسلم وتنبع ضرورته من كونه يخبر عن الإسلام نفسه بصورته النقية بدون الاجتهادات البشرية.
وكلا النوعين من الأحداث تم وضعهما في مرويات والتي غالباً ما كتبت في مدونات خاصة بكل نوع، فالروايات التي تحوي سنة النبي قد حصلت على عناية خاصة وتم تناولها بدرجة من الحذر ضمن علم الحديث، والنوع الآخر دون في كتب من قبل مؤرخين كالطبري، مع التنويه إلى أنَّ هذا التقسيم ليس منهجيا إنما قصد منه تقسيم الروايات والمشتغلين فيها تبعا لأهميتها ولمقدار العناية التي صرفت فيها. إن ما يهمنا ملاحظته هو أن المرويات من النوع الثاني على وجه الخصوص تقوم بخلق صورة للأجيال المستقبلية عن وضع الأمة في تلك الفترة، وهذه الصورة التاريخية المتشكلة لها تأثير على العديد من الأوضاع في الحاضر.
إن الصورة التاريخية لأية أمة تسقي وجودها الحالي وتعطيها أبعادها التي تتحرك خلالها، فتحدد نظرتها لنفسها والكيفية التي ترى فيها نفسها فالأمة التي تملك عن نفسها صورة الأمجاد الحربية والفتوحات التاريخية تعتبر نفسها امتدادا لتلك الحالة وقد تعتبره مسوغا لتمارس القوة على الغير. كما تتحدد علاقة الأمة بغيرها بطبيعة الحال وفقاً للصورة التاريخية الموجودة وأيضا صورتها عن الآخرين لتبني علاقات صداقة وعداء قائمة كليا على الصورة التاريخية، كما ويبنى عليها شكل التعامل بين الأفراد من أمة أو شعب ما مع أفراد من أمم أخرى والذي يمكن أن يؤثر حتى على العلاقات الاقتصادية والسياسية ويمنع تكوين علاقات قائمة على أسس المنفعة المتبادلة بعيدًا عن الاعتبارات التاريخية.
من الواضح أن الصورة التاريخية ليست مجرد فكرة ذهنية أو كلاما مكتوبا في معزل عن أي تفاعل، بل لها كل التأثير ولهذا من المهم فهم ودراسة مصادر الرويات التاريخية ومعرفة المرجح وغير المرجح منها، فكثيرا ما تم قبول مرويات وتمريرها استناداً إلى كونها تدعم فريقا أو ترجح فكرة مسبقة وليس لأنها مرويات صحيحة. حيث تعمل الدراسات أمثال المقال الذي نراجعه على فهم وتحليل المرويات ونقد غير المقبول منها.
تكمن المشكلة عموماً في أن أفكارا أيدولوجية تتعلق بهويتنا وهوية الآخر تشكلت خلال القرون الماضية ووصلت إلينا بشكل غير قابل للنقد بحجة أنها التاريخ الذي لا مراء فيه، وتستطيع اليوم أصوات متطرفة استغلال ذلك في سبيل عمل قطيعة بين الأمة الإسلامية وبقية أمم الأرض. مما يشكل عائقاً في وجه التنمية والتقدم والتواصل الحضاري.
سيف بن عمر هو الشخصية التي تدور حولها المقالة، وهو إخباري له روايات عديدة نقل عنه الطبري وقبل منه في الوقت الذي عارض فيه آخرون واعتبروه أي سيف وضاعا وغير ثقة عاش في القرن الثاني الهجري. ملامح التحيز واضحة في مروياته من ناحية أنها تدعم وبشكل غير محايد طرفا محددا خلال التاريخ وتمجيدا لشخصيات خاصة، هذا بالطبع يثير الشك فيه وفي مورياته. الكاتب أيضًا يسوق حجج بعض الباحثين المعاصرين في قبولهم لمرويات سيف أو بعض مروياته على الأقل، وتبنى المقالة على اعتباره إخباريا قد نقل إلينا مادة عن التاريخ المبكر للإسلام وهي مادة قيمة، بالإضافة أيضاً إلى أنه "كمؤرخ قد كان وضاعا". نرى أن ما نقله سيف ليس مرفوضا كليا ولا مقبولا كليا إنما يعتمد ذلك على منهج الباحث في قبول ورفض المرويات.
مهم أن نعي ضرر التحيز في نقل صياغة الروايات. ومن الأمثلة التي أوردها الكاتب والتي تدعم فكرة كون سيف بن عمر متحيزا هي روايته عن وفاة الخليفة عثمان في سن ثلاثة وستين، فسيف ربما قبل هذه القصة أو اخترعها من باب خلق وضع خارق للعادة في كون الخليفة عثمان قد توفي بنفس السن الذي توفي فيها النبي محمد-صلى الله عليه وسلم. يتضح كيف يمكن للتحيز أن يؤثر فصاحب عقيدة ما سيرغب في تمرير أي رواية تدعم عقيدته أو عند الضرورة اختراع روايات، وهذا يتبعه تحريف في التاريخ وأحداثه ويصنع صعوبة كبيرة عند محاولة فحص التاريخ بطريقة موضوعية.
من وجهة نظري تبدأ المسيرة الحقيقية في كشف محتوى التاريخ الذي تُبنى عليه التصورات الحالية بإسقاط هالة القداسة عن الروايات التاريخية حتى ولو كانت تتعلق بشخصيات مُقدسة، فلا يمكن إنكار رواية ما بسبب تصادمها مع أفكار سابقة ومسلمات عن شخصية أو حدث، أو قبولها لمجرد كونها عكس ذلك، حتى في حال كان الخبر التاريخي الوارد مخالفاً يمكن إيجاد تبرير آيدولوجي بدون الحاجة إلى تحريف التاريخ وحقائقه.
من الواضح إذن أن سيف بن عمر شخصية مثيرة للجدل في مجال الرواية التاريخية، والقيام بدراسته وغيره من المؤرخين وما قدموه يسهم في تفكيك الأسس التي تقوم عليها تصورات الأفراد المبنية على مسلمات لها مبررات في التاريخ حول مختلف القضايا. وكل ذلك ليس سوى خطوة أولى نحو تشييد وعي سليم قائم على الموضوعية وليس التحيز، وتحسين عملية اتخاذ القرار على المستوى الاقتصادي والسياسي.
