بسام الكلباني
عندما أطلق البابا الراحل يوحنا بولس الثاني نداءه من أجل نصرة الإيمان والحرية، ما استند في ذلك إلا إلى تمرد نقابة التضامن في دانزيج ببولندا على السيطرة الشيوعية؛ لكن ذلك وافق فوز ريجان بالرئاسة في الولايات المتحدة، والذي رفع شعار إسقاط "محور الشر" من طريق حرب الفضا، فقام الاتحاد السوفييتي بحملته الأخيرة للدفاع عن نفسه ومعسكره بالتوجيه بقمع الإضرابات العمالية في بولندا، والقيام بانقلاب شيوعي في أفغانستان سرعان ما أرسل جيوشه لمساعدته على الصمود. وكان ذلك هو الفخ الذي استدرج نفسه إليه، والذي سارع إليه "المجاهدون المسلمون من كل حدب وصوب، تدعمهم الولايات المتحدة، ويثيرون الكثير من نزعات الحرية بين سكان آسيا الوسطى والقوقاز للخروج من النير السوفييتي.
يذكر رضوان السيد في مقاله بمجلة "التفاهم"، "الصراع على الإسلام في زمن الهيمنة والخيارات الأخرى في الزمن الجديد"، على أن إعلان غورباتشوف انسحابه من أفغانستان في العام 1987 كان انتصاراً للإسلام على الشيوعية، ففي العام 1989 انهار جدار برلين، إيذاناً بتحقق الآمال في تحرر شعوب أوروبا الشرقية، وما نفعت المشروعات الفيدرالية التي حاولها غورباتشوف، فبدأت الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى بالانفصال وتحول زعماؤها الشيوعيون إلى اعتناق القومية تارة أو الإسلام باعتباره قومية الدول الجديدة.
لقد كانت التوقعات كبيرة وهائلة، وانتظر الفاتيكان -كما انتظر المسلمون- أن يصبحوا شركاء فاعلين في "النظام العالمي الجديد"، إلا أن الأمر كان صعباً على المسلمين؛ فهم لا يملكون قيادة دينية مركزية، كما أن منظمة المؤتمر الإسلامي ظلت ضعيفة الفعالية منذ إنشائها عام 1968 على إثر حرق المسجد الأقصى، ونتيجة لحرب الكويت تعذّر على الجامعة العربية الاجتماع على مستوى وزرائها لسنوات، وتعطلت مؤتمرات القمة، وظل العراق محاصراً وأضيف إليه حصار ليبيا. بيد أنَّ الأفظع كان الحرب الدينية والثقافية التي شنّت على الإسلام في أوساط اليمين الأوروبي والأمريكي؛ باعتباره الخطر الأخضر الذي حلَّ محل -أو يحاول أن يحلَّ محل- الخطر الأحمر الشيوعي، ونتيجة لتلك الضغوطات الثقافية والأمنية والعسكرية، توقّع كثيرون أن يحدث انفجار كبير في بقاع شتى من العالمين العربي والإسلامي، فقد نشطت دعاوى وأيدولوجيات "صراع الحضارات"، والتي روّج لها كثيرون في طليعتهم برنارد لويس، وفي العام 1993 أصدر هنتنجتون مقالته: صراع الحضارات، والتي تحولت فيما بعد إلى كتاب عام 1996 جاء فيه: إن الإسلام يملك تخوماً دموية؛ أي أنّه دين أصولي يرفض الآخر ويتمسك بالخصوصية، ويميل أتباعه الشديدو الإيمان به لممارسة العنف ضد أبناء الحضارات والثقافات الأخرى.
لكن الانفجار الموعود حدث في أفغانستان التي نُسيَت بعد خروج الروس منها عام 1989، فدار صراع على السلطة بين "المجاهدين"، الذين أزالتهم بسرعة حركة طالبان بمساعدة باكستان المجاورة، والحركة نفسها احتضنت تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن، والذي طوّر تنظيماً جهادياً تصدى للمصالح والسفارات الأمريكية بإفريقيا وآسيا، ثم شنَّ هجومه الكبير على الولايات المتحدة ذاتها في العام 2001 موجِّهاً ضربة كبيرة لهيبة أمريكا ورموز هيمنتها، وفي الوقت نفسه ضربة قاتلة لكل جهود المصالحة أو التواؤم بين الإسلام وعالم العصر، وقد حدث ما كان متوقعاً وما كان غير متوقع، فما يسمى بالحرب العالمية على الإرهاب (والتي شارك فيها العالم كلّه بالفعل) انطلقت لاحتلال أفغانستان، ثم لاحتلال العراق المتعب بالحصار. أمّا غير المتوقّع تماماً فكان حرب الأفكار التي جرى شنّها على الإسلام مباشرة، تحت شعار أن هؤلاء الأصوليين إنما يكرهون "عالم الغرب" بسبب حرياته وقيمه الإنسانية، وطريقته الحضارية في الحياة. وقد استخدمت في الحرب العالمية الثانية مئات مراكز الأبحاث والبقاع الاستراتيجية وما تركت شيئاً في الإسلام الحديث أو القديم إلا وتناولته بالتحليل والتفكيك والشرذمة رامية إلى "حرمان الأصوليين العنيفين" من أسلحتهم الفتاكة.
إنَّ الضغوط العسكرية والأمنية والثقافية والدينية في العقدين الماضيين دفعت إلى الواجهة بتيارات عريضة طقوسية وشعائرية وتعبدية في أوساط عامة المسلمين، وقد ضربت هذه التيارات في فورانها ما كان يعرف بالإسلام التقليدي؛ إسلام المذاهب والمؤسسات العريقة، وأول آثار ذلك اندماج الديني والتعبدي والشعائري في العام والسياسي، ومن آثار ذلك الاندماج تحول كل مظهر من مظاهر الحياتين الاجتماعية والعامة إلى رموز ذات قدسية متجددة ومكرورة، والبحث دائماً في جنبات النفس والآخر عن الشرير والمتآمر والمشكوك في أمانته لدينه وعرضه، والإعراض عن ذلك الآخر الذي بدا نائياً وبعيداً وشديد التنمّر للإسلام والمسلمين. ولأنّ الدين ذا الوجه التعبدي ضار هو السائد الأوحد؛ فإنَّ أعراف العيش والتصرف وأخلاقياتهما توارت، وسقطت من الاعتبار، بوصفها لا تنتمي إلى الأصالة الطهورية، ولذا فإن حركات التغيير التي انطلقت من تونس ومصر في العامين الأخيرين، كانت مفاجئة من كل وجه؛ فالشبان المدنيون (المتديّنون) الذي أطلقوا وشاركوا فيها تحولوا بسرعة قياسية إلى جمهور زاخر. وقد كانت لكل بلد خصوصياته، لكن العام والسائد أنّ الأوائل في هذه الحركات كانوا من أبناء الطبقات الوسطى المتعلّمة، وقد أصرّوا على السلمية المطلقة، وإن لم يستطيعوا المحافظة عليها في كل حال، وليس بسبب ما ووجهوا به فقط؛ بل ولأنهم أرادوا تحقيق التغيير الجذري. أمّا المفاجأة الثانية، فكانت الشعارات التي رفعوها: الحرية والكرامة والعدالة والديموقراطية ومكافحة الفساد وإقامة الصالح. لقد رأى كل المراقبين الأجانب في هذه الحركات تغييراً قيميّاً وأخلاقيّاً، لا يتفق مع الصورة التي كوّنوها عن المجتمعات العربية في العقدين الأخيرين، في هيامها التعبدي والشعائري من جهة، وفي دمجها للديني بالعام؛ إذ لم ترتفع في حركات التغيير التي عرفت بالربيع العربي أي شعارات دينية، حتى عندما دخلت الأحزاب الدينية/السياسية على خط تلك التحركات ودفعت بجماهيرها إلى الميادين.
أول مظاهر التغيير وأكثرها دلالة أنه في الزمن المنقضي، فإن الصراع على الإسلام كان دائراً بين أقطاب الهيمنة، والحركات الجهادية والأصولية، أمّا اليوم فإنه صراع داخلي بحت؛ أو شبه بحت. بمعنى أن ناسنا وحدهم تقريباً هم الذين يقررون فيه. وهو صراعٌ زاخر وقد يكون أشد هولاً من الصراع السابق؛ لكن المجتمعات العربية هي التي تفصل فيه وبطرائق سلمية، تتحوّل بالتدريج إلى آلياتٍ منتظمة.
إنَّ الإيهام بأن الدين يملك نظرية ثابتة وموحاة في السياسة والاجتماع والاقتصاد وتسيير أمور الدولة، لهو تكليف للدين والإنسان لا يطاق. وقد كان ذلك شعاراً من موقع المعارضة والمقاومة، أمّا اليوم فإن ناسنا هم الذين يمتلكون سائر الخيارات في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وهم مسلمون مخلصون لدينهم، وليسوا بحاجة إلى إيكال شؤونهم العامة لفئة تحكمهم باسم الدين، وتقرر عنهم باعتبار أنها تعرف من وحي الله وإرادته ما لا يعرفونه، أو تملك حق التقرير في الدين والشأن العام دونهم، لاعتبارات النسب أو المنصب أو طموح الاستئثار بالدين والدولة معاً.
وختاماً نؤكد أنَّ التجربة الأمريكية الحديثة في فصل الدين عن الدولة لم تكن من أجل حماية الدولة، بل من أجل حماية الدين؛ فبحسب الدستور الأمريكي لا يستطيع الكونجرس أن يشرع في أمرٍ ديني، وتلك غاية هدفت إلى عدم تفرّد جهةٍ ما بالفصل في أمور الدين. فالدين ضمير المجتمع، والتنافس باسمه يشرذمه ويشرذم المجتمع وعباداته ومنظومته القيمية.
