محمـد الشحي
ألقت المناهج الحديثة بظلالها على عالم البحث، وامتدت فروعها وأغصانها لتهيمن على مدى واسع من البحوث، حتى أصبح قبول العمل البحثي منوطا بوفائه بشروط المناهج الحديثة. وما ذاك إلا للصرامة التي تتمتع بها هذه المناهج، ووضوح الرؤية فيها، ومنطقية بنيتها الداخلية والخارجية، ونعني بالخارجية هيكل البحث، وبالداخلية الالتزام بخطة البحث. إلا أن كل هذا لم يكن ليغري باحثا معاصرا فيلتزم بهذا المنهج أو ذاك، من المناهج المقبولة في عرف الباحثين. قراءتنا في هذا المقال حول بحث للباحث التونسي علي العلوي، والمعنون بـ"ترجيح ابن الرامي البناء للأقوال في كتابه الإعلان بأحكام البنيان"، والمنشور في مجلة "التفاهم"، عدد 36، للعام 2012. محاولين تقديم رؤية خاصة بهذا العمل البحثي الذي نرى قلة وفائه بالمنهج البحثي واضحِ الرؤية.
إن أول ما يلاقي القارئَ في البحث هو العنوان، وللأهمية القصوى التي يمتلكها هذا العنصر من عناصر البحث، فقد اهتم به منظرو المناهج العلمية في البحث اهتماما مبالغا، واشترطوا فيه أن يشي بموضوع البحث، محددا لحدوده وأطره الزمانية والمكانية، وأن يبرز المنهج الذي يلتزم به الباحث في بحثه منذ بدايته حتى نهايته. وقد أتت أولى كلمات العنوان "ترجيح ابن الرامي البناء"، ليدلنا على المنهج الوصفي الذي يسير فيه الباحث مُقدمًا لنا هذه الظاهرة التي لاحظها في كتاب هذا المؤلف، ظاهرة "الترجيح" الفقهي. إلا أننا عندما نسير في طيات البحث نلحظ أن الباحث لم يقصر بحثه على ظاهرة "الترجيح" فحسب، بل تعداها إلى غيرها من اعتماد ابن الرامي القياس كدليل أصولي، ودراية ابن الرامي بالخلاف، واعتماده منهج المقاصدي.
كما أن الباحث لم يقدم لمقاله بمقدمة تبين منهجه، وأهمية مقاربته، والأهداف التي يرمي إليها من وراء بحثه، وفرضيات البحث، والأسئلة التي يحاول الإجابة عنها، وأهم من ذلك كله، لم نتعرف على إشكالية البحث التي أعطته شرعية البدء بالبحث، فيظل القارئ يتلمس الطريق التي اختارها الباحث أثناء القراءة، ولا يمكنه ذلك من إبداء الرأي ومساءلة النص والحكم على جودته. إذ بدأ الباحث البحث بما أسماه "القسم الأول: نظري: التعريف بابن البناء، وبيان حقيقة المنهج وأهميته في الدراسات الشرعية"، لكننا نلحظ أنه لم يفِ في مقاله سوى بالتعريف بابن البناء، والشيوخ أو القضاة الذين أدركهم. وغاب، فيما غاب، بيان حقيقة المنهج وأهميته في الدراسات الشرعية.
ومن بين الملاحظات المنهجية على هذا المقال، القفز من مقدمة إلى نتيجة دون المرور على التدليل على تلك المقدمة إثباتا أو نفيا أو تمحيصا. مثال ذلك قوله في بيان مفهوم الترجيح اصطلاحا، بعد الإتيان بتعريف كل من أبي الوليد الباجي وفخر الدين الرازي، قال: "وبناء على هذا التعريف الاصطلاحي للترجيح يُلحظ اعتماد ابن الرامي البناء منهج الترجيح في كتابه". لعمري، كيف توصل الباحث إلى هذه النتيجة قبل أن يستعرض النماذج التي تدعم زعمه هذا. وكيف ساغ له القفز من هذه المقدمة إلى تلك النتيجة دون المرور على فحص الفرضية، على اعتبار أنه طرح فرضيته بالأصل.
يُطالعنا سؤال حول الجدة في اختيار الباحث لابن الرامي البناء في بحثه، ترى ما الجديد الذي يكون قد قدمه ابن الرامي في كتابه الإعلان بأحكام البنيان، وشد به أنظار الباحث العلوي ليخصص له هذا المقال الذي تعدى العشرين صفحة، وما القيمة المعرفية لهكذا بحث.
إذا ما طالعْنا الجانب الفقهي من عمل ابن الرامي، فإننا نجده لا يختلف عن سواه من الفقهاء الذين طرحوا آراءهم الفقهية في مؤلفات. إلا أننا نُدهَش من تقديم ذلك العمل بصورةٍ أقرب للاحتفائية منها للعلمية الواصفة؛ فها هو الباحث يقدم نماذج لترجيح ابن الرامي الذي لم يتعد عمله سوى النقل ممن سبقه من الفقهاء ثم التعليق عليها بـ"هذا جواب حسن"، واتخذ الباحث هذه الكلمة دليلا على ظاهرة "الترجيح" عند ابن الرامي، فأين الإبداع والجدة في ذلك. وينسحب هذا الكلام على كل النماذج التي أوردها الباحث من كلام ابن الرامي، فإنها لا تعدو كونها عملا فقهيا مثل سواه من الأعمال.
ولعلنا نقف على مغالطة المصادرة على المطلوب عندما نراه يتحدث حول منهج المقارنة عند ابن الرامي، فمنهج المقارنة، كما أورده الباحث نفسه يقوم على المقابلة بين الصور المختلفة لصنف من الظواهر. فشرط الاختلاف واجب لقيام المقارنة. لكن، عند اختبار هذه الظاهرة عند ابن الرامي لا نجد سوى الإحالة إلى مصدر آخر فيه قولٌ فقهي. مثال ذلك قوله "وفي الواضحة ما قاله ابن القاسم... وابن الرامي قارن في هذه المسألة بين قولين وبين مصدرين؛ لأنه بين التشابه بين قولي ابن القاسم في المدونة وابن حبيب في الواضحة". وقد خفي على الباحث أن قول ابن القاسم في الواضحة لا المدونة، وقول ابن حبيب في المدونة لا الواضحة. كما أن الاختلاف بين الرأيين مفقود؛ فعلى أي أساس قامت المقارنة بين القولين.
وفي المبحث الثالث الذي جعله الباحث بعنوان "ابن الرامي المجتهد المستقل"، يلقي الباحث دعوى الاستقلال بالاجتهاد في آرائه الفقهية. فالاستقلال، كما نفهم، أن يرد الفقيه رأيا مطروحا ليستقل بغيره فتبرز شخصيته الاجتهادية. إلا أنه، عند التدقيق في هذه الدعوى، نجد الباحث يفهم ذلك الاستقلال فهما آخر؛ فاستقلال ابن الرامي لا يعدو كونه إضافةً يضيفها هذا الفقيه حيث يتوقف غيره؛ مثل المقدار الذي يجب فيه إبعاد الرحى عن حائط الجار. وليس في ذلك استقلال بقدر ما هو إضافة لآراء غيره.
أورد الباحث في نهاية مقاله نتائج بحثه، الذي افتقد لوضوح الرؤية والمنهج، واحتوى على عدد من النقائص. نلحظ في هذه النتائج أنها مبتورة عن أصلها المفقود، نعني بذلك أن النتائج لا بد أن تكون على صلة وثيقة بفرضيات البحث؛ وطالما غابت الفرضيات فلا غرو أن تأتي النتائج كأنها إلحاقات غير وثيقة بالبحث. فمن أين الصلة بين سلاسة لغة ابن الرامي بالبحث الوصفي، ثم ماذا يعني الباحث بسلاسة اللغة؛ إذ إن هذه الألفاظ بعيدة عن النفَس العلمي الذي يشترط صفة القياس للنتائج من أجل التأكد منها. كما أن النتيجة التي نرى لها صلة، وإنْ ضعيفة، بموضوع البحث، نجدها أتت في الترتيب السادس من بين النتائج، نعني قوله: "سادسا: ترجيحه للأقوال". لكن، ما الإفادة الجادة التي تقدمها هذه النتيجة، وغيرها، باختصار، لا شيء. ثم، لا ندري كيف توصل الباحث إلى النتيجة الحادية عشرة التي تنص على تأثر ابن الرامي بعجوز المذهب ابن رشد الجد؛ إذ إنه لم يورد مشكلة كهذه طوال المقال.
ختاما... إنَّ المناهج الحديثة الرصينة لا تسمح بقبول هذا البحث الذي لا يخرج عن كونه متأثرا بأسلوب التأليف القديم، ويتساءل القارئ الفاحص، كيف لباحث أنْ يسمح لمقال يحمل اسمه بين الباحثين فيُخرجه بهذه الصورة من العَوار الواضح والعجز عن الإيفاء بالشروط العلمية. لا بد أن هناك أمرا مفقودا توضحه القفزات من المقدمات إلى النتائج، ومن عنوان إلى مضمون لا يفي به. ندعي، وللمؤلف حق الرد في ذلك، أن هذا المقال جزء من مؤلف أكبر أحَب الباحثُ أن ينشره كبحث مستقل في مجلة محكمة فيما قد يدخل تحت مسمى الانتحال الذاتي.
