هنية الصبحية
إنَّ المواطنة واجبات نقوم بتفعيلها، وهي من واجبات الأعيان التي لا تقبل الإنابة، وحقوق نسعى إلى تحصيلها، وهي من حقوق الله التي لا تقبل الإسقاط. هذا ما قاله أستاذ كلية الحقوق بجامعة الاسكندرية محمد كمال الدين إمام، وقد ناقش التطور الفكري لمفهوم المواطنة في الغرب وفي جمهورية مصر بشكل خاص، إضافة إلى الأسباب الكامنة خلف تزعزع قيمة المواطنة في مصر، وتسليط الضوء عليها في مقاله -المنشور "بمجلة التفاهم"- "المواطنة والأزهر... قراءة في الحالة المصرية".
ويشير الباحث إلى أن التصور الإسلامي للحقوق والحريات يتميز بخاصيتين تتمثلان أولا: يرى الإسلام أداء الحقوق كأي واجب ديني آخر؛ وبالتالي فإن الحافز الديني يعد مؤثرا على الحوافز السياسية والدوافع الطبيعية التي تشكل ضمانا إضافيا إلى ضمانات الحرية المعروفة. ثانيا: يرى الإسلام أن الحقوق أمر مكلف بأدائه لا مطالب به وأن تعاليمه تأمر بأداء الحقوق لأصحابها، كما يذكر أن التحدي الكبير الذي تواجهه الأمة العربية نحو مفهوم المواطنة أنه مفهوم مستحدث من التجربة الغربية تحت ما يسمى بالعلمنة التي تعني إبعاد الدين وتنحيته عن المؤسسات المختلفة في الدولة. كما يلفت النظر إلى أن علماء الاجتماع المعاصرين ومن بينهم أنتوني جيدنز أشار إلى ذلك، ذاكرا أن السيادة الدينية في المؤسسات الاجتماعية الغربية بدأت بالتناقص الذي أثر أكثر على المجتمعات وخاصة مع تعاظم دور العلمنة فيها، وبالرغم من ذلك فإن هذه التطورات لا تعني انتشار العلمنة أو انتصارها، وبهذا فإن الباحث يشير إلى ضرورة الالتفات إلى ثلاث ظواهر يحب اعتبارها والأخذ بها وهي: إن موقع الدين في المجتمعات الغربية أكثر تعقيدا وتشعبا على عكس أنصار العلمنة؛ فما زالت المعتقدات الدينية والروحية تؤثر كثيرا على حياة الكثير من الأفراد، وبذلك تشكل حافزا ودافعا يحدد مسارات السلوك الفردي والجماعي فيما بينهم حيث أن الكثير من الغربيين يؤمنون بالله وقواه الخارقة. ثانيا: إن العلمنة لا يمكن قياسها على أساس الانتساب إلى المؤسسات الدينية المتعارف عليها، فهذا المقياس لا يمكن الأخذ عليه. وأخيرا إن غياب العلمنة في أكثر المجتمعات غير الغربية وهذا لا يقصد به المجتمعات التقليدية، حيث أن أشكال انتشارها في المجتمعات الغربية متفاوتة وبعض من الحركات الدينية متأثر بما يسمى باليمين المسيحي الجديد الذي يرتبط بمواقع صنع القرار السياسي والاجتماعي، خاصة في الولايات المتحدة.
كما يذكر إمام أن في العقود الأخيرة ظهرت نظريات تربط مفهوم المواطنة في القرون الثلاثة الأخيرة بظاهرتي الإقصاء والدمج، فالقرن الثامن عشر تميز بظهور الحقوق المدنية التي تشمل أنواعا مختلفة من الحريات الفردية من بينها: حرية التعبير، وحرية الرأي، والمعتقد الديني، وحرية التملك، والمحاكمة العادلة أمام القضاء. أما القرن التاسع عشر تميز بنشوء الحريات السياسية كحرية التصويت، وشغل الوظائف والمناصب العامة، والمشاركة في السيرورة السياسية. أما القرن العشرون فقد تميز بظهور الحقوق الاجتماعية كحقوق المواطنين في النشاط الاقتصادي والضمان الاجتماعي والتعليم والصحة وغيرها من الحقوق الاجتماعية التي أصبحت من ضمن منظومة المبادئ لدولة الرفاهية، وبذلك فإن النتيجة من إدخال الحقوق الاجتماعية في مفهوم المواطنة الإسهام في إعلاء مفهوم تحقيق المساواة للمجتمع.
ويشير الباحث إلى أنه وعلى الرغم من غياب المواطنة سياسيا في العالم العربي خلال القرون الماضية، إلا أن الأزهر الشريف فُرض عليه سياسيا بسبب مرجعيته الرائدة، خاصة بعد رفض المحاولات التنويرية خارج التأثير الغربي، وبهذا أصبحت الحركة الدينية جزءا من مؤسسة الحكم. وعليه يجيب الباحث حول الجديد في استراتيجية الدولة المصرية الحديثة، حيث أصبحت الدولة تهمش المؤسسات الدينية التقليدية، بسبب الحاجة إلى إعادة ترتيب التراث التاريخي لمفهوم الدولة. وعليه فقد أصبح مفهوم المواطنة تحت وطأة الغرب الطامع الذي يسعى للسيطرة على الأرض والثروة، وسلطة الحاكم الطامح الذي يسعى للسيطرة على البشر والقوة؛ لأن كلا منهما يسعى لتوظيف الجغرافيا من أجل حماية مصالحه؛ وبهذا فإن تلك الإرهاصات لم تنجح في نمو وتقدم مفهوم المواطنة، وذكر الباحث بعض النماذج المصرية التي لم تفلح في الانخراط النهضوي الجديد للدولة المصرية الحديثة؛ بسبب أنها قامت على أعمدة ثلاثة تمثلت في: جيش قوي يعد طوق النجاة في ظل العوالم المتغيرة، وإدارة رشيدة اختفى رشدها بسبب البيروقراطية الصارمة التي قضت على أحلام المصريين، ونخبة قائدة فقدت قوتها وانقسمت إلى ثلاث نُخب وهي: نخبة معارضة تسعى لمصالحها الخاصة لا العامة، ونخبة مروضة تحولت إلى كتلة فاسدة في وسائل الإعلام، ونخبة محرضة لا تعرف قيمة الوطن وأهمية استقراره وضرورة الحفاظ على مقاصد شريعته. وبهذا فإن الباحث يشير إلى أن المنظومة القيمية التي تمثل البيئة الحاضنة لثقافة المواطنة غائبة؛ ولأن الدين يصنع الثقافة، والثقافة تصنع التدين؛ فإن الدين أوجد ثقافة كاذبة وفاسدة وتدين مخادع ينتج عنه تآكل وانعدام مقومات المواطنة المنيعة، وهذا ما أصاب الأزهر الشريف بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير.
ويؤكد الباحث أن جوهر المواطنة يتمثل في الوعي بها من جانب مشترك بين كل من الدولة ومؤسساتها وبين الأفراد والجماعات، بالإضافة إلى ضرورة الوعي بعدم صلاحية التقسيم الديني أو الإثني أو النوعي؛ ليكون معيارا أخلاقيا في منظومة الحقوق والواجبات التي نصها عليها القرآن الكريم باعتباره المصدر الأساسي للتشريع. ويرى الباحث أن المواطنة المصرية أمام محظورين هما: الفكرة الغربية العصية على النقل، والخبرة الوطنية محدودة الفعل، كما أنه يرى أن المجتمع المصري يعيش في كنف التجانس الذي تمثله الأرض وسيادة العرق المصري ووسيلة الإنتاج التي يتم الاعتماد عليها في الزراعة، والتعددية التي تمثلها المسيحية والإسلام في حياة المصريين.
وعليه، يشير الباحث إلى أن التطورات الدستورية المصرية عززت وجود المواطنة الشاملة للجميع في مؤسسات خاصة كالمؤسسات القضائية والحقوق والحريات الدينية، وقد دعم الأزهر الشريف في العديد من المواقف، حيث تزعمت الهيئات القضائية خلال العقدين الماضيين المرأة وبعض من رجال القضاء المسيحيين. ويجيب الباحث عن تناقض الواقع المصري في تطبيق قيمة المواطنة ويرجع السبب في ذلك إلى أن الثقافة عاجزة ويكمن خلفها التقليد والجمود والطائفية المنبوذة وبذلك تصبح في مواجهة غير متكافئة مع قوى ظاهرة وخفية في آن واحد وهذا ما دعمه الإمام الدكتور أحمد الطيب في أحد بحوثه بأن المواجهة المصرية الجديدة تتمثل في المفارقات التي أحدثها النظام الاجتماعي الإسلامي.
