القدرية الأوائل وأثرهم على الفكر الاعتزالي

زهرة السعيدية

يتتبع حسن الخطاف في بحثه المنشور في مجلة التفاهم بعنوان "القدرية الأوائل: فكرهم العقدي وتوجههم السياسي"جذور الفكر الاعتزالي التاريخية والفكرية، حيث تقصى حياة

الشخصيات القدريّة التي أخذ عنها المعتزلة الكثير من العقائد والأفكار، كذلك ناقش توجهاتهم السياسية التي أودت بهم إلى الهلاك. من أبرز هذه الشخصيات: معبد الجهني وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم وأخيراً الجهم بن صفوان.

قبل الحديث عن هذه الشخصيات لابدّ من تعريف مختصر للفكر الاعتزالي حتى نعرف كيف تأثر هذا الفكر بالقدرية الأوائل. نشأ الفكر الاعتزالي في أواخر العصر الأموي عندما اعتزل واصل بن عطاء مجلس أستاذه الحسن البصري نتيجة خلاف في مسألة "مرتكب الكبيرة"، أخذ واصل حينئذ بتدريس منهجه الفكري في مجلس مستقل؛ يقوم هذا المنهج على تقديم العقل على النقل؛ أي إذا تعارض أحد النصوص المنقولة مع العقل سيستعين أتباع هذا الفكر بالمنطق السليم عوضاً عن التسليم المطلق بالنص المنقول.

تأثر واصل بالقدرية الأوائل الذين قالوا إنّ الإنسان مسؤول بالكامل عن تصرفاته، فهو الذي يختار ما يفعل وليس الله، حيث رفضوا إسناد أفعال الإنسان القبيحة والفاسدة إلى الله. ولقبوا بالقدرية لأنهم يسندون تصرفات الإنسان إلى "قدرته وحريته في الاختيار". يقول الكاتب إن القول بالقدر كان منبعه الحس الأخلاقي وليس الفلسفي، ذلك لأنَّ معبد الجهني (أول من قال بالقدر) كان ينكر ويعيب على ملوك المسلمين الذين يسفكون الدماء ويستبيحون الأموال ثم يقولون إنما أفعالهم قدرٌ من الله. لذلك كان القصد من القول بالقدر هو أن يتحمل كل إنسان مسؤولية تصرفاته، ولم يكن المراد به نفي علم الله بأفعال البشر. بالإضافة إلى البعد الأخلاقي لهذا المعتقد فهناك بعد إلهي غايته تنزيه الله عن أفعال البشر.

معبد الجهني

يعرض البحث الجوانب التاريخية والفكرية والسياسية لأفكار القدرية الأوائل ويربطها بأفكار المعتزلة، فيبدأ بتقصي حياة أول شخصية أثرّت فيهم، وهي شخصية معبد الجهني. كان معبد رجلا عابدا وزاهدا يتصف بالصدق ويهتم بالعلم أيما اهتمام. هو أول من قال بأن الإنسان مسؤول وحر في تصرفاته، ويقال إنه أخذ هذا القول عن شخص يدعى سيسويه كما ورد عن ابن تيمية، أما ابن حجرات فيقول إنه أخذ ذلك القول عن يونس الأسواري. ويقول آخرون إن سيسويه هو يونس الأسواري الذي تعترف به المعتزلة، بل لهم مدرسة تسمى الأسوارية. من هنا نستطيع القول إن المعتزلة تأثروا بمعبد الجهني فيما يخص "القول بالقدر"، فأصبحت هذه الفكرة في معتقدهم نسقا كلاميا مترابطا مدعّما بالحجج العقلية والنقلية، وأوردوه تحت مسمى "خلق الأفعال".

قُتِل معبد الجهني بعد أن عذّب بأمر من عبدالملك بن مروان بسبب أفكاره التي كانت تهدد السلطة الأموية. لكنه نجح في نقل أفكاره إلى معاصره غيلان الدمشقي.

غيلان الدمشقي

كان غيلان الدمشقي هو صلة الوصل الأولى بين الجهني والمعتزلة في مسألة القول بالقدر. يقول القاضي عبد الجبار إن غيلان قد كتب في التوحيد والعدل والوعد والوعيد، لذلك قد يكون واصل بن عطاء قد تأثر بغيلان فيما يخص هذا الأمر أيضاً ذلك لأن التوحيد والعدل والوعد والوعيد تعد من أصول المعتزلة. كذلك قال غيلان إن الإمامة ليست حكراً على قريش وإنما تصلح لكل من كان قائماً بالكتاب والسنة؛ وهذه مقولة تأثر بها واصل بن عطاء خصوصاً والمعتزلة عموماً. أما أفكاره التي أدّت إلى هلاكه كما هلك معبد من قبله فقد كانت إجازة الخروج على السلطة الجائرة؛فأمر هشام بن عبد الملك بقتله خوفاً من أن تزعزع أفكاره دولة بني أمية التي كانت تعتنق أفكارا تتعارض مع هذا الفكر.

الجعد بن درهم

تتلخص آراء الجعد الفكرية في قوله بالقدر، وإنكاره لكلام الله (أي أن تكون لله صفة الكلام، كأن يتكلم) والصفات الأخرى وذلك من أجل أن ينزه الله عن باقي الخلْق. كانت للجعد الكثير من الاعتقادات الجدلية ومنها أن "الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلّم موسى تكليما"، التي جعلت خالد القسري أيام ولايته على العراق يذبحه في عيد الأضحى بعد أن خطب في الناس. بالرغم من أن الاعتقاد السائد يقول إن خالد القسري قد ذبح الجعد من أجل حراسة الدين والدرء عنه، إلا أنه بالنظر إلى شخصية خالد القاسية، وثرائه الفاحش، وولائه لبني أمية من أجل السلطة، وعدم اهتمامه بالدين، وكذلك نظراً لأن الجعد كان دائماً ما ينتقده ويذمه فمن المرجح أنه قد قتله لأسباب سياسية وليست دينية.

الجهم بن صفوان

من هنا نصل إلى الشخصية الأخيرة التي أثرت أكثر من غيرها في المعتزلة والتي كانت حلقة الوصل بينهم وبين الجعد. أتحدث هنا عن الجهم بن صفوان، تلميذ الجعد بن درهم، الذي كان يُعارض السلطة الأموية كما كان يفعل معلمه. بالرغم من أنه لم يصل أي شيء مدوّن عن آرائه الفكرية لكن هناك بعض مما أخذ عنه من مخالفيه. سأذكر الآراء التي أخذها المعتزلة عنه وسأترك ما رفضوه، ذلك لأن الكاتب لم يطمئن لها لتعارضها منطقياً مع أفكاره الأخرى، وهو يعتقد أنها قد تكون نُسبت إليه كذباً. من أهم آراء الجهم هي موافقته للجعد من حيث أن الله "لا يوصف بما يوصف به العباد"، فأنكر أن تكون لله صفات مثل الحياة والعلم و"أجاز وصفه بالقدرة والفعل" وذلك من أجل تنزيه الله عمن سواه. وكذلك أنكر رؤية الله يوم القيامة، وهو ما أخذه عنه المعتزلة ومذاهب أخرى وزادوا عليه في التحليل والتفسير. بالإضافة إلى ذلك، أخذ الجهم عن معلمه القول بخلق القرآن وذلك إكمالاً على نفي صفة الكلام عن الله. وجب التنبيه هنا إلى أن الجهم بن صفوان لا يعّد حقاً قدرياً لأنه يعتقد أن الإنسان مسّير لا حريّة له في الاختيار، إلا أن هذا الرأي قد يكون قد نسب إليه كذباً كما ذكرت بالأعلى.

أخيراً، أرى أنَّ تراث القدرية جدير بالدراسة والتمحيص وذلك للبعد الأخلاقي الذي ينطلق منه، فبلا شك أن من امتلك الشجاعة لينتقد جور بني أمية والأفكار السائدة كان يتمتع بحس أخلاقي عال وقدرة على التفكير النقدي، وهذا في الحقيقة ما يجب أن نأخذه عنهم.

أخبار ذات صلة