الأدب العربي في روسيا... بين الأمس واليوم!

وليد العبري

فيما عدا الاهتمام البيّن بترجمة القرآن إلى اللغة الروسية ظلت الترجمات الأخرى ـ من أدب وفلسفة وغيرهما من فروع المعرفة، ولفترة زمنية طويلة ـ محدودة وغير متداولة بين القرّاء، كما بقيت اللغة العربية من ضمن اللغات الأقل اهتماما لدى المترجمين الروس، وذلك إذا ما قورنت باللغات الأوروبية وبعض اللغات الآسيوية البارِزة. في الآونة الأخيرة بدأ الكتاب العربيٍ المترجم يخطو خطواته ـ وإن كان بخجل ـ في سوق الكتاب الروسية وبين رفوف المكتبات، فضلا عن إرساء نظرية للترجمة العربية ـ الروسية. وهو ما تحدثت عنه الكاتبة فيكتوريا زاريتوفسكايا المستعربة والمترجمة الروسية، وأستاذة اللغة العربية في الجامعة الروسية للصداقة بين الشعوب.

وأضافت أن الترجمة الأولى للقرآن الكريم إلى الروسية عام 1716 أنجزت بأمر من القيصر بطرس الأول، وحققها أسـتاذ الفلسفة في جامعة بادوفا الإيطالية "بيوتربوستينكوڤ" وهو روسي الأصل. وإن كانت هذه النسخة من ترجمة القرآن إلى الروسية هي الأولى زمنيا؛ فإنها جرت عبر النسخة الفرنسية للقرآن بتوقيع "أندريه دي رييه" وليس عن اللغة العربية مباشرة. وقد اتسمت هذه الترجمة بالقصور وكثرة الأخطاء بداية من اسم الكتاب الذي تُرجم بـ: (القانون التركي)، كما لم يأخذ المترجم على عاتقه مراجعة النص الفرنسي، فحمّل النص الروسي كل الأخطاء التي وردت في النسخة الفرنسية، ناهيك عن الحذوفات التي عمد إليها المترجم في النسخة الروسية.

الترجمة التالية للقرآن الكريم تمت عام 1790،وكانت بمثابة تصحيح للترجمة الأولى؛ حيث قام الكاتب المسرحي الروسي "ميخائيل ڤيروڤكين" بترجمة النص الفرنسي ذاته لدى رييه. ومن المعروف أن شاعر روسيا الكبيرألكسندر بوشكين قد استفاد من هذه الترجمة، ومنها استلهم أفكاره وصاغ وجدانياته عن القرآن في ديوان (محاكاة القرآن) وبتسمية أخرى (من وحي القرآن 1824). بعدها وفي عام 1792 صدرت الترجمة الثالثة للقرآن، وجاءت عبر ترجمة نسخة "جورج سيل" الإنجليزية، قام بها المترجم الروسي "ألكسيهكولماكف"، وقد راعى فيها المترجم الأمانة التقنية والمعرفية في الترجمة.

تنقسم الأعمال العربية التي تصدى لها المترجمون والمستعربون الروس إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى اهتمت بالتراث الشعري والنثري العربي في مرحلته الذهبية، ومن تلك الأعمال المترجمة نذكر: ديوان المتنبي، ومقامات الحريري، ومقامات بديع الزمان الحمداني، إلى جانب مجموعة متفرقة من الحكايات الشعبية العربية. المجموعة الثانية أخذت من مؤلفات نثرية تناولت مواضيع تتعلق بالصراع الاجتماعي والسياسي في المنطقة العربية، وأعمال ما عرف بأدب المقاومة، وأعمال أخرى كان أصحابها على علاقة إيدلوجية بالاتحاد السوفيتي.

ومن أبرز الترجمات التي تحققت في هذا الجانب نذكر أعمال: محمود تيمور، وغسان كنفاني، وعبدالرحمن الشرقاوي، وإبراهيم الكوني وآخرين. المجموعة الثالثة احتوت أعمال الكتّاب والمبدعين العرب ممن أحرزوا شهرة عالمية واحتفت بهم الثقافات الأجنبية كما حازت أعمالهم على الجوائز الدولية، ومن هذه النخبة نذكر أسماء: جبران خليل جبران، ونجيب محفوظ، والطيب صالح، ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم وغيرهم من الكتّاب المرموقين.

في التسعينيات من القرن الماضي، تسبب انهيار الاتحاد السوفيتي بضرر في البُنى الثقافية، والذي ظهر على حركة الترجمة والنشر خاصة في مجال الأدب المترجم بعمومه ومن اللغات غير الأوروبية على وجه الخصوص. ففي ظل ظروف اقتصادية صعبة، وعند منعطف حاد تمر به روسيا، كان فيه المجتمع على أعتاب زمن جديد، ففي ظل هذه الظروف انحسرت الترجمة من اللغة العربية، وقل الاهتمام بترجمة الأدب العربي إلى أدنى مستوى له منذ ربيعه السوفيتي الأول.

وقد ترتب على هذا الوضع أن أنقطع حبل التواصل بين المنتج الإبداعي العربي والمتلقي الروسي، بحيث أصبح الكتاب العربي المترجم محجوبا عن السوق ورفوف المكتبات. وقد تسبب هذا الانقطاع المعرفي عن العالم العربي في نشوء حلقة مفرغة ظل أثرها ماثلا حتى بعد استقرار الأوضاع في البلاد؛ ذلك لأنه – وتوازيا مع خروج روسيا من أزمتها الخانقة واجتيازها المخاض الانتقالي العسير – كان المشهد في الشرق الأوسط ينبئ بحالة تململ وينذر بزلازل قادمة، في حين أن الشارع الروسي – وسبب انقطاع التواصل مع المشرق العربي – بقي شبه معزول عما يحدث مع أصدقاء الأمس.

في الألفية الجديدة، وفي ظل استعادة العلاقات الروسية العربية زخمها (وإن بأشكال ومصالح تختلف عن العهد المنصرم) شهد التبادل الثقافي بدوره انتعاشا ملحوظا، وبدأت مرحلة جديدة على صعيد الترجمة والنشر واستقبال الكتاب العربي في السوق الروسية. ويأتي معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ودار الكتاب الشرقي للنشر، ودار العلم للنشر في مقدمة المهتمين بترجمة الأدب العربي، ومن الترجمات المهمة التي صدرت عام 2009 عن دار العلم للنشر ترجمة كتاب رفاعة الطهطاوي.

المسألة الأخرى والملحة برأينا تكمن في اختيار الأعمال للترجمة والترويج لها من قبل دور النشر الروسية؛ فالأدب العربي قد وقع ضحية الجري المحموم وراء الربح السريع في سوق الكتاب، واجتذاب القارئ عن طريق العناوين الصادمة؛ إذ يتم الترويج – بين الحين والآخر – لروايات تقدم جانبا ضيقا من الحياة العربية، مليئا بالقتل والرعب والكآبة مثل الرواية التي حملت عنوان "سعاد ... المحروقة حية" عام 2009 بلا ذكر لاسم المؤلف، وتتحدث عن جرائم الشرف في جو كابوسي للحياة العربية، ورواية "المشوهة" 2007 بتوقيع كاتب يدعى هادي.

وحتى لا نخرج عن دقة الطرح، فمؤلفو مثل هذه الكتب والروايات ليسوا عرباً دائما، ولكن الموضوعات المقدمة تدور في فلك العالم الإسلامي، ومن ثم – وفي ظل نقص الكتب والروايات العربية الحقيقية والفنية والمتنوعة – يتشكل لدى القارئ الروسي تصور مشوه عن الأدب العربي على وجه الخصوص.

إشكالية أخرى يجدر التطرق إليها عند الحديث عن ترجمة الأدب العربي إلى الروسية، وهي البحث عن مترجمين، بتأكيد ثيمة الكثير من المستعربين الروس الذين يترجمون في مختلف المجالات ولكن ليس في مجال الأدب. لم يترجم الأدب العربي إلى الروسية منذ نحو 30-40 عاما. لم يكن هناك إقبال، ومن ثم توارى المتخصصون. وكما نعلم فالترجمة الأدبية مجال خاص والمتخصصون فيه نادرون. المشكلة الأخرى كانت مع المترجمين المخضرمين، الذين كانوا خبراء لامعين في المعهد السوفيتي، ولكن اتضح أنهم ينقلون النصوص إلى لغة روسية تعود إلى زمانهم وتصعب قراءتها اليوم.

يبدو واضحا أن الإهمال الذي يعتري ترجمة الأدب العربي في روسيا يجري في إطار معقد ومتعدد الأبعاد. وعندما نتحدث عن الترجمة كماهية اجتماعية وثقافية مرتبطة بصيرورة الحياة المعاصرة؛ نرى أن الاحتكاك الضعيف بين الثقافتين الروسية والعربية خلال قرون عديدة أدى إلى محدودية الانفتاح بين الجانبين، وقصور في استيعاب النصوص الأدبية استيعابا وافيا ومكتمل الأركان.

ثمة مسائل معرفية وتقنية خاصة في إبداع النصوص وطريقة خلقها تختلف جذريا بين اللغتين العربية والروسية، وهذه الفوارق لا تذلل إلا بالترجمة الأصلية وبانفتاح معرفي واسع بين الثقافتين. مثال على ذلك نجده في النص الروسي الذي لا يحتمل تكرار المفردة نفسها في جملتين متجاورتين، ومن غير المستساغ في استخدام سلسلة من المترادفات والصفات بينما يحتملها النص العربي. ثمة أيضا الاختلاف البيّن بين الجغرافيا العربية والروسية، وما أفرزته من تقاليد ومظاهر ثقافية وظواهر لغوية تزيد من صعوبة التواصل بين الفريقين. مرة أخرى فالمزيد من الانفتاح يؤدي إلى المزيد من الانسجام.

 

 

أخبار ذات صلة