مستقبل الدين عند الفيلسوفين فاتيمو ورورتي

هنية الصبحية

يناقش الفيلسوف وأستاذ التعليم العاليبجامعة تونسفتحي المسكيني في مقاله – المنشور بمجلة "التفاهم"- "المعاني المتضاربة لعودة الدين لدى الفلاسفة الغربيين المعاصرين". وقد شملت دراسته صيغة المشكلة التي طرحها فاتيمو وملاحظات رورتي حول تحديد النقاط الآتية: عصر التأويل، والإلحاد والديمقراطية، والدين الخاص، وما مستقبل الدين بعد الميتافيزيقيا؟ ، وأخيرا سياسات الدين.

يعد الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو أحد فلاسفة التيار الفلسفي الحديث والمتأثر بجون ديوي وجورج غادامير، كما يمثل الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي من أهم الفلاسفة النفعيين المعاصرين. ويساهم عملهم الفلسفي بكونهم مؤسسين لنوع جديد من الثقافة وهي الثقافة ما بعد الدينية وتعني مستقبل الدين بعد تفكيك الأنطولوجيا الغربية، وقد أطلق عليه الفكر الضعيف أو المخفف وهو ليس ضعيفا إلا في شيء واحد وهو العزوف الحاسم عن الرغبة في التأسيس الأنطولوجي لأي خطاب حول حقيقة الكينونة.

ويوضح المسكيني أن فاتيمو يقدم صورة عن إسهام علم التأويل في مستقبل الدين مشيرا إلى أنه ليس قضية موضوعية؛ وإنما انخراط صريح حول ما أوضحه نيتشه بأنه لا توجد وقائع وإنما تأويلات فقط، حيث أن الفيلسوف لا يقدم أدلة وبراهين وإنما يقدم أجوبة على وضعيات وجد نفسه متورطا فيها. ويذكر الكاتب أن هيدغر يرى المعرفة بأنها دائما تأويل ولا شيء آخر، وأن التأويل هو الأمر الواقع الوحيد الذي عنه يمكننا أن نتكلم وكلما حاولنا الإمساك بالتأويل في أصالته فإنه لابد من الوقوف على طابعه التاريخي، بحيث يمثل التأويل بأنه لا يمكن أن نحتج له إلا بوصفه جوابا مهما عن وضعية تاريخية مخصوصة.

وفي سياق ذلك يشير المسكيني أن فاتيمو أقام تعديلا على الوضع الجديد باعتباره أنه يقصد تقديم التأويلية بوصفها فلسفة عصر معين حدث فيها شيء استثنائي، هذا الحدث يعبر عن المركزية الأوروبية في جملة تنويعاتها وخاصة أنه لا يوجد صورة واحدة للعالم، كما يشير المسكيني بأن ذلك شيء طريف بحيث قدم فاتيمو العصر ما بعد الميتافيزيقي بوصفه حدثا مرتبطا بثقافة معينة؛ لأن هذا الوضع المحبط يجعل منا مؤولين وليس مسجلين موضوعيين للوقائع.

ومن خلال القراءة التحليلية للمسكيني، يرى أن المثير عند فاتيمو تأثره بمقولة نيتشه في موت الإله باعتبارها تنويعة سردية على موت الإله المسيحي، بالإضافة إلى وجود علاقة بنيوية بين نهاية الميتافيزيقيا وظهور البشارة المسيحية. ويبين الكاتب أن الهرمينوطيقا -علم التأويل-منحت الفلسفة الصيغة الأخيرة من حدث مسيحي ويمثل نفسه في زمن القطيعة مع الميتافيزيقيا اليونانية، مشيرا إلى قول فاتيمو إلى أن الهرمينوطيقا هي عملية تطوير وإنضاج للرسالة المسيحية. وهذا يعني أن ظهور الدين التوحيدي على الساحة العالمية هو الذي دشن عملية تفكك الخطاب الميتافيزيقي وذلك منذ صلب المسيح، وبهذا فإن عصر التأويل نتاج اللقاء الطريف بين الهرمينوطيقا والمسيحية.

ويذكر الكاتب أن الفيلسوف رورتي يوضح بأن السؤال عن الدين يعني إضعاف أي رأي يقابل بشكل حاد بين معتقدات علمية ومعتقدات دينية، كما يشير رورتي أن كلمة ملحد أصبحت أقل شعبية؛ نظرا لتطور المعتقدات العلمية والدينية، وبيّن أن الفلاسفة الذين لا يذهبون إلى الكنيسة هم أقل من يعتقد بأنّه ليس هنالك إله وهم الأكثر تأثرا بتعبيرات ماكس فيبر، كما يوضح أن الفرق بين إيمان وآخر هو الفرق الموسيقي؛ أي بلا أي مضمون أخلاقي. ولهذا وجب ضرورة إخراج معنى الإلحاد من خانة المعرفة إلى خانة السياسة؛ لأن الإلحاد ليس عقيدة علمية وإنما تشكيلة سياسية سماها رورتي معاداة الكهنوت في الحياة الحديثة، وقد ميز بين ادعاء الفيلسوف أنه ملحد وبين أن يكون علمانيا معاصرا، فالملحد يدّعي أنّ الإيمان الديني غير عقلاني بينما العلماني المعاصر يرى أنّ الإيمان الديني خطر سياسي بحيث يتجاوز الدين حدود الإيمان الخاص والامتداد إلى استعمال مؤسسات كهنوتية من أجل أهداف سياسية، كما يرى أن يتفق المؤمنون وغير المؤمنين على اتباع سياسة العيش دون التدخل في شؤون الآخرين.

ويشير الكاتب إلى أن رورتي فيلسوفا لا ينتمي إلى أي دين، كما يركز على مجاز الموسيقى من أجل إبراز المشكل الموسيقي مع الدين ليس لاهوتيا، ويعلق رورتي على فاتيمو حينما قال بأنه يجد نفسه أصبح دينيا أكثر وأكثر وأنه ينبغي له أن يؤمن بالله، ويرى رورتي ضرورة قول فاتيمو بأنه أصبح دينيا أكثر فأكثر ومقدمًا على ما يسميه بعض الناس الإيمان بالله رغم أنه غير متأكد من اللفظ الصحيح للإيمان.

فالموقف الطريف لفاتيمو حسب رؤية رورتي أنه يخرج الدين من مجال المعرفة. وعليه يرى أنّ التدين ليس مقتصرا على مفهوم الإيمان، إلا أن أهمية طرح فاتيمو ارتبطت بأنه لم يقبل الحل الذي أعطاه الفلاسفة.

وعليه فإنّ الصعوبة التي واجهت فاتيمو تمثلت في فهم مفهوم التجسد الذي يعني تجسد الرب في الإنسان، ويبني تصوره عليه، وحقيقة التجسد عنده أنه تخل من الرب للبشر، وتضحية منه بسلطانه وغيرته، فهو الفعل الذي يتخلى به الرب عن كل شيء لصالح البشرية وأنه ليست ثمة قوة للرب وتوصف بأنها روح الدينونة نفسها، بحيث يأخذ البشر كل شيء وبقدر ما يتدنون الغرب تتحقق بشارة الإنجيل لنا بألا نمسي مع الرب في الخدمة والعبودية، وإنما في الصحبة والعبودية ويوصف ذلك بالإحسان المسيحي والمحبة الإنجيلية.

وقد تأثر رورتي بالفكر الضعيف الذي جاء به فاتيمو في فلسفته ويعد أنها تطبيق نموذجي له؛ بوصفه تفكيرا فلسفيا سلبيا لا يسعى إلى نقد الثقافة المعاصرةولا وضع موضوعات جديدة لهذه الثقافة، وإنما يسعى إيجابا إلىجمع الذكريات واقتراح بعض الإمكانات المهمة؛ كما يشير المسكيني إلى أنه مهما حاولنا التعالي بفكرنا إلا أننا نبقى سجناء اللغة والاستعارة، موضحا ادعاء قوة فكرنا ولا يملك ذلك أساسا والذي عبّر عنه رورتي عن ضعف الفكر بمعناه الإيجابي: لن نرى الرب وجها لوجه ولن نصل لحقيقة الواقع، كما يوضح أنّ الفلسفة لم تعد تعبيرا عن عصرها كما كانت في عهد هيغل وإنما فلسفة تأويل، تسعى لتصبح مقنعة، وبهذا يسعى فكر ما بعد الميتافيزيقيا أنطولوجيا.

ويختتم الكاتب موضحا ملخص حوار الفيلسوفين في أنّ مستقبل الدين يقع في ما وراء الإلحاد والإيمان؛ إنه يحتاج إلى صيغة غير أخروية عن كينونة الروح،روح لا تجد كمالها في الذات الديكارتية بل في شيء آخر.

 

أخبار ذات صلة