زهرة السعيدية
يبحث محمود حداد في مقاله "الأمير شكيب أرسلان: من التفسير السياسي/الديني إلى التفسير الجغراسي للأوضاع العربية والإسلامية الحديثة"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، في سيرة المفكر العربي المسلم الأمير شكيب أرسلان.. يناقش أفكاره قبل وبعد الحرب العالمية الأولى، وتفسيره الجغراسي لنكوص العالم العربي.
يتحدر شكيب أرسلان (1869-1946) من عائلة درزية بارزة من جبل لبنان، لكنه اعتنق لاحقاً الإسلام السُّني، وأخذ يمارس فرائض الإسلام الرئيسية التي لا يهتم بها الدروز كثيراً. كان أرسلان أديبا وسياسيا بارزا اهتم أولاً بالوحدة الإسلامية ولاحقاً بالوحدة العربية، وكانت له خلال فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها أنشطة وأفكار مهمة حول التوفيق بين القومية العربية والوحدة الإسلامية، رغم أنها تعرضت لنوع من الإهمال.
يُناقش الكاتب أولا العلاقة الفكرية والسياسية بين رشيد رضا وشكيب أرسلان خلال فترة الحرب العالمية الأولى، فبينما كان رضا يؤيد التحالف العربي-البريطاني، كان أرسلان يعارضه ويدعو للاتحاد مع الدولة العثمانية. جعله هذا الأمر ينضم لحزب "الإصلاح الحقيقي" الذي كان يهدف لدعم الحكومة العثمانية في صراعاتها الخارجية. كان هذا الحزب يقف في مجابهة حزب عربي آخر تأسس للمطالبة بحصول الولايات العربية على الاستقلالية في الحكم، وكان رشيد رضا أحد قادته. إذن يتضح من التوجهات السياسية لكل منهما، أن توجهاتهما الفكرية كانت متباينة نوعاً ما.
مواقف أرسلان السياسية قبل الحرب العالمية الأولى
ويلاحظ الكاتب أن أفكار أرسلان قبل الحرب العالمية الأولى مختلفة عن أفكاره بعدها، حيث كان يرى أن الرابط الديني أقوى من الرابط القومي، لذلك دعا إلى وجود دولة خلافة إسلامية تضم الدول العربية والإسلامية جميعها تحت مظلة واحدة حتى وإن لم تكن دولة عربية، كان بالطبع يتحدث عن الدولة العثمانية لأنها الدولة الاسلامية الوحيدة التي كانت قادرة على فعل ذلك في تلك الفترة رغم بداية تدهورها. كان الأهم بالنسبة لأرسلان هو الدفاع عن "قلب القوة العسكرية الإسلامية". وكان يعتبر القومية العرقية أحد أسباب تدهور الدولة العثمانية، حيث رأى أن إذكاء الرابط القومي يعمل على إذابة الروابط الإسلامية فلا تعود هناك ألفة بين المسلمين في مختلف أنحاء العالم.
مواقف أرسلان السياسية بعد الحرب العالمية الأولى
تقاربت أفكار أرسلان في هذه الفترة قليلاً مع أفكار رشيد رضا بسبب ما أحدثته نهاية الحرب العالمية الأولى من تغييرات سياسية هائلة في المنطقة؛ من ضمنها: الانتداب الفرنسي والبريطاني الذي فرض على دول الشرق الأدنى، وصعود أتاتورك في حكم تركيا وتخليها عن منصب الخلافة الإسلامية، وعلمنتها، وتبنيها للحروف اللاتينية بدلاً من الحروف العربية، فخابت بذلك آمال أرسلان في إحداث تقارب عربي-تركي، فركز بدلاً من ذلك على الوحدة العربية.
نَشَر أرسلان في هذه الفترة كتاب "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم"، وكان جوابه عن هذا السؤال أن المسلمين عندما طرقوا العلمانية تخلوا عن مبادئ دينهم بعكس الأوروبيين الذين تمسكوا بدينهم المسيحي؛ ذلك أنَّ نُخبهم الحديثة ترى أن العلمانية هي "الفصل الإداري بين مؤسسات الدولة ومؤسسات الدين المسيحي"، بينما رأى المثقفون المسلمون أن المشكلة تكمن في الإسلام. لم أجد شخصياً أي إحصائيات جادة تدل على أن الأوروبيين تمسكوا بمبادئ دينهم عقب تبني دولهم للعلمانية؛ لذلك لا دليل صريحاً على صحة هذا الادعاء، لكن ربما يعود السبب إلى الطريقة التي أدخلت فيها العلمانية إلى أوروبا، حيث كانت تدريجية نوعاً ما، فلم تشكل صدمة كبيرة للمجتمع المتدين.
يقول الكاتب إن المنظرين قد لاحظوا أن مساعي أرسلان كانت متباينة أحياناً لأنه تبنى خلال حياته مقاربات مختلفة للهوية، لكنه في الحقيقة كان يحاول أن يجمع النظريات المختلفة من أجل تحقيق هدف واحد وهو طرد القوى الأوروبية من البلدان العربية.
يقول الكاتب إن أرسلان قدم لاحقاً تفسيراً مختلفاً لتأخر الشرق الأدنى(الذي يضم العراق ومصر وبلاد الشام والأناضول) عن الشرق الأقصى (دول شرق آسيا)؛ حيث ركز على الجانب الجغرافي والسياسي بدلاً من الديني والثقافي. فعزى أسباب التأخر، إلى موقع البلدان العربية الجغرافي، حيث أن قربها من القوى الأوروبية عرضها إلى غارات متوالية لم تتعرض لها دول شرق آسيا بسبب بعدها عن هذه القوى، ويقول أرسلان إن ميزة البعد الجغرافي هذه، جعلتهم في مأمن من الاعتداءات الأجنبية ومكنتهم من التركيز على التعلم والتهذب بأمان.
لديَّ تحفظات كثيرة على رأي أرسلان، وعلى موافقة الكاتب له؛ فالمُطَّلِع على القليل من التاريخ سيعرف أن الغارات الأوروبية -وبالأخص فرنسا وبريطانيا- لم توفر أحداً، بمن فيهم شرق آسيا، فقد مرت هذه الدول بتاريخ قاس واستعمارات أجنبية كثيرة، أذكر منها مثلاً ما حدث لأندونيسيا، فقد استعمرها البرتغاليون ثم الإنجليز والهولنديون ثم اليابانيون وأخيراً الهولنديون، مرة أخرى، في محاولة منهم للسيطرة على حقول النفط. وكذلك الاستعمار البريطاني لماليزيا والهند وهونج كونج. وما حدث في كوريا من حُرُوب دموية وتدخلات خارجية حتى إنها كانت من أكثر الدول عوزاً حتى سبعينيات القرن الماضي، إلا أنها استطاعت خلال ثلاثة عقود أن تصبح من أكثر الدول تقدماً؛ لأنها اتخذت قرارات سياسية واقتصادية سليمة. وحتى اليابان نفسها التي كانت تغزو جارتها، فقد تعرضت لضربة قاسية في الحرب العالمية الثانية لم يتوقع أحد أنها سوف تتجاوزها، لكنها فعلت ونهضت من جديد.
لكنني قد أتفق معه إذا تعلق الأمر بالاستعمار الفرنسي؛ حيث لا دولة قدرت على تجاوزه، فجميع الدول التي استعمرتها فرنسا بقيت متأخرة حتى الآن، سواء في شرق آسيا (كمبوديا، ولاوس وفيتنام)، وإفريقيا (دول المغرب العربي وأفريقيا الاستوائية…إلخ)، والكاريبي (هايتي...إلخ) وغيرها الكثير.
ما أعنيه هو أنَّ عزو سبب تأخر العرب والمسلمين إلى الاستعمار وحده لا يكفي، فقد يكون نتيجة تآلب عدة أسباب؛ منها: الثقافي والديني والسياسي؛ لذلك الأولى محاولة التعلم مما حدث في دولٍ كانت في مآسٍ وخيمة قبل عقود قليلة، وأصبحت اليوم دولا ناجحة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا.
