هل الانتقاد صادر من أديان تبشيرية مزاحمة أو أوساط أيديولوجية مناوئة؟!

وليد العبري

تتلخص فلسفة الكنيسة الاجتماعية فيما يُعرف بـ "تعليم الكنيسة الاجتماعي"، المبني أساسا على فحوى الرسائل البابوية العامة والإرشاد الرسولي. وهي عبارة عن توجيهات صادرة عن أحبار الكنيسة أثناء عهدتهم البابوية لحث جموع الأتباع للسير فيها. وكأي مؤسسة ذات نفوذ، فإن سلطة المؤسسة الدينية في روما غالبا ما تخضع لاعتبارين: الأول: داخلي يعبر عن فلسفة الكنيسة العميقة ورؤاها، بوصفها الموجه للخيارات اللاهوتية التي تود ترسيخها. والثاني: خارجي يلبي مقتضيات الحضور في العالم تبعا لمختلف التحالفات والولاءات. وضمن الجدل الداخلي مع الخارجي تحاول الكنيسة زيادة نفوذها ورسم معالم حضورها، أيما كان شكله رمزيا أم فعليا.

وهذا ما ناقشه مقال "إعلانات الفاتيكان بشأن مكافحة الفقر بين الدين والأخلاق" المنشور بمجلة التفاهم؛ فقد بين أن الفاتيكان بوصفها مؤسسة دينية عريقة تستند إلى رأسمال روحي قوي، لم تخلُ من نفوذ دنيوي رافق نفوذها الرمزي؛ فمنذ عام 1740م وإلى تاريخنا الراهن، دأب أحبار الكنيسة على إصدار رسائل بابوية عامة تعبر عن المواقف اللاهوتية الرسمية؛ بقصد خلق إجماع بين سائر الأساقفة، وتوجيه عامة المؤمنين صوب الطريق الذي ترتئيه بشأن القضايا الاجتماعية التي تشغل الأتباع.

والرسائل البابوية العامة هي رسائل مدونة باللاتينية عادة، تتعنون بأولى العبارات الواردة في مطلع النص. واليوم ما عادت هذه الرسائل أو الإعلانات تتوجه إلى المسيحيين حصرا؛ بل غدت تجاري أوضاع التحولات العالمية وما تقتضيه من انفتاح؛ لتعبر عن موقف الكنيسة من قضايا الراهن، بوصفه الأسلوب الجديد ضمن مخطط الأنجلة الواسع.

والجلي أنه منذ أمد برزت الحاجة في أوساط رجال الدين إلى إبلاغ الآخرين تأويلهم تعاليم الدين؛ فالرسالة البابوية العامة، والمستوحى تسميتها من الإغريقية "enkyklos" تعني بلاغا، وهي عبارة عن منشور سري تم تداوله منذ القرون الوسطى بين الأساقفة؛ للإعراب عن فحوى العقيدة، ولتسوية الخلافات الناشبة في الدين.

ولكن منذ عام 1740 باتت تلك المنشورات حكرا على رأس الكنيسة ضمن ما يعرف بالرسائل البابوية، وسميت نظيرتها الموجهة من الأساقفة والمطارنة إلى عامة الرعية "بالرسائل الرعوية".

ونظرا لخطاب الكنيسة غير المألوف بشأن القضايا الاجتماعية، والانحياز الواضح فيها إلى الشرائح الضعيفة، عدها بعضهم مؤشرا على تغير جوهري في مواقف الكنيسة، حتى أن السياسي الفرنسي جان جوراس عدّها في ذلك العهد "برنامجا اشتراكيا واعدا". والواقع أن انفتاح الخطاب الديني على الشأن الاجتماعي أتى في ظرف كانت الكنيسة فيه تتلمس الطريق نحو مسلك مغاير مع السياسة الدولية ومع مسارات التغيير العميقة التي تشهدها الدولة، بما يراعي الثوابت اللاهوتية، ويستجيب للتحولات الجارية، وهو ما تطلب "عبور الصحراء"، تخللته حربان عالميتان وسقوط نظامين قوميين: فاشي ونازي، يسّرت مخاضاتها للكنيسة عودة مستجدة لاحتضان المجتمع.

مع هذه المواقف المنافحة عن الشرائح الضعيفة – والتي عُدّت غير كافية، وأخلاقية أكثر منها عملية – لم تشهد مؤسسة دينية انتقادا في الأزمنة المعاصرة مثلما شهدته الكنيسة الكاثوليكية جراء مواقفها الغائمة من قضايا الفقر والفقراء وموالاة أصحاب النفوذ والمترفين.

وما كان الانتقاد صادرا من أديان تبشيرية مزاحمة أو أوساط أيديولوجية مناوئة؛ وإنما جاء في مجمله من أوساط دينية عريقة تستبطن التراث المسيحي، ومن كنائس تستلهم التراث الكتابي نفسه الذي تستند إليه الكنيسة الكاثوليكية. وهو ما سبب انشقاقات في الرؤى اللاهوتية وسيلا من الاتهامات، برز ذلك في أدبيات "لاهوت التحرير" وفي مواقف "اللاهوت النقدي"، تقديرا أن خلاص الإنسان عمل من صنعه، يتأتى تبعا لنضاله السياسي التاريخي، بعد أن بات الفقير – كما يقول ليوناردو بوف– الكائن الحقيقي الذي يتهدده الانقراض.

لو تتبعنا الأوضاع التاريخية التي أحاطت بصدور الرسائل البابوية نلحظ ما اكتنفها من مسايرة للتحولات العالمية؛ حيث أتت رسالة "التطور الاجتماعي" لبولس السادس – 1968 – إقرارا بترافق التقدم بتفاقم الفقر. وهي تلخص وعي الفاتيكان بمسألة تصفية آثار الاستعمار ونهب ثروات الشعوب وتعطيل تطورها؛ حيث أعلن أن المسألة الاجتماعية باتت عالمية تستوجب تضامنا كونيا. لقد لفت الفاتيكان الانتباه حينها إلى كوارث الفقر والأوبئة والمجاعة التي ترهق العالم الثالث، حاثا الجميع على تبني نهج سلمي في المطالبة بالتوزيع العادل للثروات.

هذا ولم تخلُ مضامين الرسائل البابوية من توجيه رسائل سياسية مباشرة للرأي العالم العالمي، على غرار رسالة "السلام في العالم" ليوحنا الثالث والعشرين 1963؛ لتذكّر الساسة والمجموعة الدولية أن استعمال القنبلة الذرية وتدمير المدن لأجل ضرب عدو مفترض يُعد انتهاكا صارخا لكرامة الخليقة، ودعت إلى بناء نظام عالمي جديد أساسه السلم والاحترام بين الشعوب.

وفي ظل هذا العرض العام للرسائل البابوية ينبغي ألا يغيب عن ذهن القارئ أن سلطة المجمع تبقى أعلى سلطة في الكنيسة بما يفوق توجيهات الرسائل. حيث مثلت سنوات مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) سنوات الصمت أمام قضايا الفقر. ولو تمعنا أعمال المجمع نلحظ هامشية قضايا الاستغلال والمحرومين، والتركيز على كيفية تثبيت وجود الكنيسة في عالم متحول، مع تجذر هاجس الأنجلة والبحث عن سبل تفعيله بما يلائم العصر.

في خضمّ تلك التعاليم الواردة في الرسائل العامة ثمة رسالتان بابويتان محوريتان في تاريخ الكنيسة الحديث بشأن المسألة الاجتماعية، وما عداهما تعليقات وهوامش على ذلك المتن:

  • الأولى: "المسائل الجديدة" التي حاول الفاتيكان التصالح فيها مع العصر، لوصف ذلك النص تأسيسا لما يعرف بتعليم الكنيسة الاجتماعي، الذي يعبر عن الرؤية العقدية وتنزيلها في المجال العام. فقد بقيت المسائل الجديدة مرجعا على مدى عقود لمناضلي المسيحية الاجتماعية ولأطراف نقابية مقربة من الكنيسة، وهو ما تجلى في الدعم الواسع للأحزاب المسيحية في إيطاليا على مدى أربعة عقود تقريبا منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.
  • والثانية: رسالة "التطور الاجتماعي" البابوية التي عدّ البابا بولس السادس فيها التنمية عنوان السلام الجديد، ودعا إلى إعادة جدولة ديون الدول الأكثر فقرا بإلحاح. ففي تلك الأجواء أطلّ لاهوت التحرير وما مثله من إحراج لروما. لعل ذلك ما حدا بالكنيسة إلى تخصيص عقد مؤتمر، بين الثالث والرابع من أبريل العام الجاري، لإحياء خمسينية صدور رسالة "التطور الاجتماعي" في مسعى لتعميق المسارات اللاهوتية والأنثروبولوجية والرعوية للرسالة البابوية.

رغم تلك النبرة الحازمة مع البابا الحالي - حيث لم يتوان في رسالته الأخيرة عن توظيف مقولة الصوفي علي الخواص مغازلا المسلمين – فإن ما يبعث على الفتور أن تتحول حماسة البابا إلى مناهضة طوباوية شعبوية لجذور الفقر. وكما يقول بول ريكور: لسنا في صف الفقراء ما لم نكن مناهضين بالفعل للفقر، فالدعوة مقبولة على مستوى خلقي؛ ولكنها تصطدم بفقدان المصداقية إذا ما تمعن المرء في مدى التزام الكنيسة على نطاق داخلي بهذا التمشي. فلا يتعلق الأمر برفض عاطفي لآثار الفقر؛ بل بنقد صريح لصنّاعه على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي.

صحيح ثمة تردد في حاضرة الفاتيكان مع البابا فرانسيس لمسائل الفقر، ولكن ثمة حديث أيضا عن أكل أموال الناس بالباطل، لعل آخره مبلغ المائتي ألف يورو المحولة من مستشفى الطفل يسوع بروما إلى تغطية نفقات قصر على ذمة الكاردنيال ترشيسيو برتونه، سكرتير دولة الفاتيكان الأسبق.

 

 

أخبار ذات صلة