العلاقة بين الدين والأخلاق

زهرة السعيدية

كتب أحمد زايد مقالا بعنوان "الدين والأخلاق والمعروف: التمايز والتكامل"طرح فيه تعريفات للدين والأخلاق والمعروف، و ناقش أشكال التمايز بين هذه المفاهيم الثلاثة، ثم أكد على أن لكل مفهوم حدوده ومجاله الخاص الذي يتداخل ويتكامل مع المفاهيم الأخرى. وأجابت المقالة كذلك على سؤال مهم حول طبيعة العلاقة بين المكونات الثلاثة.

يبدأ الكاتب بطرح تعريفات للدين في اللغة وعلم الاجتماع، حيث عرّف الدين في اللغة بأنه الاعتقاد والاعتناق والطاعة والانقياد لفكر معين. وذكر من علم الاجتماع تعريفات مختلفة أذكر منها تعريف جيمس فريزر الذي يقول أن الدين هو ” عبادة وتبجيل القوى المتعالية عن الإنسان والتي يعتقد أنها توجه مجرى الطبيعة والحياة البشرية وتضبطها“، أو تعريف بيتر برجر الذي يرى أن الدين هو غطاء مقدس يخلق التوازن في الحياة بحيث يقف بين عالم الإنسان وبين العالم الأوسع ويهتم بقيم وأنظمة الحياة.

ثم ينتقل بعد ذلك إلى الأخلاق، ويعرفها على أنها "الطبع والسجية والمروءة والأفعال التي تتجلى فيها صورة الإنسان الباطنية". ويقول أن للأخلاق مستويين، الأول هو مستوى واقعي وصفي يؤطر سلوكيات المجتمع أما المستوى الثاني مهو مستوى معياري ومثالي يهتم ”بالمبادئ المرتبطة بالأحكام الأخلاقية“. سيكون المستوى الأول هنا الأخلاق Morals والثاني الأخلاقيات Ethics. ولدي هنا قصة حدثت في سبعينيات القرن الماضي توضح الفرق بين الاثنين. يطلق الكثير على هذا الحدث ”قضية الجثث المدفونة“، وتحكي قصة محاميي دفاع (فرانك أرماني وفرانسيس بلجي) كانا قد أديا قسم الحفاظ على خصوصية موكلهم المتهم بقضايا عديدة من بينها القتل والاغتصاب، ومشتبه باختطاف فتاتين كان الجميع يبحث عنهما. اعترف المجرم بعدها أمام محاميي الدفاع أنه هو من قتل الفتاتين المفقودتين، ثم أطلع المحاميين على مكان الجثث، فوقع المحاميان في معضلة أخلاقية بين واجبهم الإنساني والأخلاقي تجاه أسر الضحايا وسكان البلدة(Morals) وبين خصوصية العميل وأخلاقيات المهنة(Ethics). اختار المحاميان أن يلتزما بأخلاقيات المهنة وأن يحافظا على خصوصية موكلهم. انكشفت بعد فترة حقيقة تسترهم على الجريمة وتعرضا إلى الكثير من المضايقات وأقيمت ضدهم العديد من الدعاوي فانتهت حياتهما المهنية تقريباً. لكن بعدها بفترة أسقطت عنهما كافة التهم وأقرت المحكمة أن تصرفهما كان التصرف الأمثل. أصبحت هذه القضية اليوم تدّرس في مواد أخلاقيات القانون. لكن أهالي الضحايا أصيبوا بخيبة أمل عندما ما عرفوا أن التستر على جريمة قتل أطفالهم أصبحتأفضل وسيلة لتدريس الأخلاقيات القانونية والمهنية. هذه التعارضات سواء كانت بين المستوى الأول والمستوى الثاني من الأخلاق أو بين الدين والأخلاق قد توقع المجتمع في معاضل أخلاقية لا مفر منها.

يعرف الكاتب المعروف على أنه القول الجميل والفعل الجميل الذي يأتي به الإنسان كرامة منه في تعاملاته اليومية، وتعتمد هذه الأفعال والأقوال إما على مبادئ دينية أو قواعد أخلاقية أو خيارات شخصية.

بعد أن وضح الكاتب معنى كل من الدين والأخلاق والمعروف بدأ بالكشف عن أوجه التمايز بين الثلاثة وحاول أن يوّضح الحدود المميزة لكل مفهوم. فأحد أوجه التمايز مثلاً هو أن الدين أكثر اتصالاً بعالم القداسة منه بعالم الحياة، لأنه شيء قدسي يفوق الطبيعة ولذلك فإن له احتراما خاص، ويعاقب عادةً كل من يخرج عنه وعن تعاليمه. في الجانب الآخر، ترتبط الأخلاق والمعروف بعالم الحياة ارتباطاً وثيقاً، فهي موجودة بالأساس من أجل تنظيم علاقة البشر ببعضهم من أجل صلاح حياتهم، ومع حرص المجتمعات على الأخلاق والأمر بالمعروف إلا أنها لا تعاقب من لا يلتزم بها عقاباً واضحاً كما تفعل مع من يخرج عن الدين.

تظهر أحد أوجه التمايز الأخرى في ثنائية التعالي-المحايثة، فالدين ينتمي إلى عالم متعال لا يمكن الوصول إليه أو إدراكه ولا يصح الطعن به، وهو كذلك دائم وباق مدى الحياة. أما قيم الأخلاق والمعروف فهيمتحايثة، ويمكن تفكيكها وتطويعها لتناسب خيارات الإنسان، لذلك هي مختلفة ونسبية من زمن لآخر ومن طائفة لأخرى. يقودنا هذا التمايز إلى وجه تمايز آخر: المطلق والنسبي. من المتفق عليه أن الدين شيء مطلق تماماً للأسباب التي ذكرتها في الأعلى، أما المعروف فهو أمر نسبي تماماً لأن الأفعال الخيرة تعتمد على خيارات الإنسان وحده. في المقابل يختلف البعض في مدى نسبية الأخلاق لأنها عادة ما تشتق من الدين ولكنها تتأثر بتغير الزمان والمكان وبالأفكار المتجددة.

بالرغم من التمايز الواضح بين المفاهيم الثلاثة (الدين والأخلاق والمعروف) فإن ارتباطها وتكاملها أهم وأوضح من تمايزها. يقول الكاتب إن أوجه التمايز هي مجرد أفكار تحليلية مقترحة على المستوى المجرد، لكن عندما نأتي إلى أرض الواقع سنجد أن هذه المكونات الثلاثة شائكة ومتداخلة لدرجة يصعب معها أحياناً أن نحدد إن كان سلوك معين قد اشتق من الدين أم من القواعد الأخلاقية العامة.

يقترح الكاتب صورة توضيحية للعلاقة التكاملية بين الدين والأخلاق والمعروف على شكل هرم متدرج من المطلق إلى النسبي، حيث يقف الدين في قمة الهرم ثم الأخلاق في الوسط والمعروف في القاعدة. فتتدرج النسبية من قمة الهرم (أقل قدر من النسبية) إلى أسفل الهرم (أكبر قدر من النسبية). يعكس هذا التدرج في النسبية تدرج التفاصيل، فكلما زادت نسبية القاعدة أو الفكرة تداخلت أكثر مع تفاصيل الحياة.

أحد أكثر صور التكامل بين الدين والأخلاق ظهر عندما حاولت بعض الحركات الدينية أنسنة الدين وتحويله من أداة لقمع الإنسان إلى أداة لخدمته وتحقيق مصالحه. من المعروف أن كل فكرة تحمل في بداية ظهورها رؤى حالمة وأهدافا نبيلة لرفاهية الإنسان، لكن يحدث في النهاية أن تتحول لأيديولوجية مؤذية. وهذا بالضبط ما يحدث في الأديان، لذلك تظهر أحيانا حركات تحاول أن تعيد الدين إلى مساره معتمدة في ذلك على قيم وقواعد أخلاقية متينة. ويحدث أحياناً أن يرفع الدين من مبادئ أخلاقية ويصبغها بصبغة دينية. وتبقى الحقيقة الواضحة هي أن كلا من الدين والأخلاق يعملان معاً نحو رفاهية الإنسان وحفظ نفسه وعقله وكرامته.

أخبار ذات صلة