وليد العبري
إنّ تشكل الهوية العربية لم يكن يعود إلى مكونٍ واحدٍ ولا إلى اثنين، وإنما يعود إلى أكثر من مكوَّن، قد يكون بعضها أصيلا في تشكيلها، وبعضها قد يكون فرعيا فيها. وهذا ما ناقشه الباحث محمود كيشانه في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم".
وأول هذه المكونات هي الدين، إذ يُعد الدين المكوّن الرئيسي في تشكيل الهوية؛ لما ينطوي عليه من قيم وأخلاقيات وطقوس وعبادات تقود البشر إلى اصطناع هوية متمايزة عن غيرها من الهويات. غير أنه من الملاحظ منذ فترة أن الإسلام يتعرض لافتراءات كثيرة تهدف إلى القضاء عليه وزعزعته في قلوب المسلمين، وكان ما تعرض له في العصر الحالي أشد وأنكى، وهذا أخطر ما يواجه الدين كمكون رئيسي من مكونات الهوية، فذهب المدعون إلى أنه سبب تأخر المسلمين وتدهورهم، ولا شك في أن هذه فرية لا أساس لها من الصحة؛ لأن الإسلام جاء ثورة على الجمود والقديم الفاسد، فحفلت آيات القرآن بدعوات صريحة إلى العمل الدؤوب المثمر وإلى العلم الذي ينبغي تحصيله رفعةً لشأن المسلمين.
لقد جمع الإسلام وكتابه الحكيم شتى أصول التقدم الأدبي والروحي والمادي والاجتماعي، ودعا إلى مختلف المقومات العالية لمدينة فاضلة وكريمة مهذبة، إذ إن الإسلام زاخر بالآيات العديدة التي تدعو إلى النظر العقلي والتفكير الحر البعيد عن التقليد، بل إنه يدعونا إلى المنهجية البناءة وإلى اتباع المنهج العلمي السديد.
يقول أحد الباحثين: "الإسلام دين العقل والفكر ما في هذا من ريبٍ، وبذلك يشهد القرآن الكريم الذي يشيد بالعقل في كثيرٍ من آياته والرسول العظيم في كثير من أحاديثه، كما يدلُ لذلك أيضا عقائده التي جاء بها وأصوله التي قام عليها"، حتى إن استقراء منهج القرآن في قصص المرسلين ليدلنا على أن الحرية العقلية ركن في الدعوة إلى الله، وركن في صحة العمل الإنساني استحقاقا للثواب أو العقاب، والإسلام سار مع هذا المبدأ، وجعل اليقين الصحيح ثمرة النظر العميق في الكون الفسيح.
وإذا كان المسلمون قد تأخروا في هذا الجانب العقلي، فليس ذلك ذنب القرآن الكريم ولا ذنب الإسلام؛ وإنما هو ذنب تكاسلهم وخمولهم، وهذا يقودنا إلى نفي أي تهمة تنسب إلى الدين الإسلامي، خاصة ونحن نعلم أن كتابه ما زال ماثلا بين أيدينا وشاهدا على صدق ما نذهب إليه.
ومن ثَمَّ نفهم أن الإسلام الذي يتهمه أهل الغرب ليس هو الإسلام الصحيح؛ وإنما هو إسلام بِدَعِيٌّ على الأرجح – إن صح هذا التعبير – فهمه أهله فهما خاطئا، ومزجوه بأساطير الأمم الأخرى، ومن ثم فإن أهم ما يوجه إلى الأُمة؛ لكي تنال فهمها: أن يطهر العلماء العقائد مما عَلَقَ بها من شوائب كان سببها المسلمون؛ إذ لو فعلوا ذلك لتوصلوا إلى لب دينهم، الذي حتما سيقودهم عندها إلى آفاق من التقدم والرقي؛ لأنهم حينها سوف يدركون أن هذا الدين لا يشجع الكسل ولا التواكل، وإنما يدعو إلى العمل الدؤوب والسعي المستمر في سبيل الإلمام بالعلوم الكونية التي تقودهم إلى إدراك حكمة الله وقدرته.
أما عن ثاني أهم مكون في الهوية العربية هي اللغة، إذ تُعد من العوامل الرئيسية في توحيد الأمم وتعاضدها وتماسكها بوصفها أداة التواصل والتعايش بين أبناء الأمة الواحدة. ويبقى ارتباط اللغة العربية بالقرآن بوصفها اللغة التي نزل بها الكتاب المقدس العامل الأهم في تماسك أبناء الأمة.
وعليه فاللغة العربية – كما يقول الدكتور أحمد أبو زيد – "ليست في حقيقة الأمر مجرد وسيلة بسيطة أو تبادل المعلومات؛ وإنما هي – إلى جانب ذلك – أداة ومظهر في الوقت ذاته لقيام رابطة ذهنية وعاطفية بين الشعوب الناطقة بها؛ إذ ليس ثمة ما يربط بين الناس أو يقرب بينهم مثل وجود لغة واحدة مشتركة تعبر عن فكر مشترك وعن وحدة وجدانية وعاطفية. وخير دليل على ذلك التقارب التلقائي الذي يتم بين الناطقين باللغة الواحدة في موطن الغربة، حتى ولو لم يكن بينهم معرفة أو علاقة سابقة، فاللغة جزء من كيان الشخص ووجوده وشخصيته الاجتماعية، والتفريط فيها فيه شيء من التنازل عن بعض هذا الكيان وإهدار لتلك الشخصية".
غير أن اللغة في عصر العولمة بوصفها مكونا أساسيا للهوية العربية فإنها تتعرض للعديد من التحديات والتهديدات التي تحاول أن تعصف بها، تحت ستار التمدن. أول تلك التحديات التي تواجه اللغة العربية في عصر العولمة تلك الدعوات التي تشجع على زيادة الاهتمام باللغة الدارجة أو اللهجات الكثيرة المنتشرة ليس في الوطن العربي الكبير، إنما المنتشرة في كل ناحية من نواحي كل دولة عربية على حدة.
ومع أنه ليس ثمة غبار على الاحتفاظ بهذه اللهجات وحفظ التراث الأدبي الشعبي الذي يسجل بها، بل وضرورة دراستها؛ لأن في ذلك إثراء للثقافة العربية؛ فإن ذلك يجب أن يتم بغرض المحافظة على التراث من الاندثار، وليس بقصد إحلال تلك اللهجات الدارجة محل اللغة الفصحى، سواء في الكتابة أو التدريس أو في بعض المجالات الأخرى؛ لأن مثل هذا التحول من شأنه إضعاف الوحدة العضوية، القائمة بين أقطار الوطن العربي وشعوبه، والفصل بينها لغويا، ومن ثم فكريا ما دام الفكر يرتبط باللغة ارتباطا وثيقا.
ومن تلك التحديات التي تواجه اللغة العربية: الأخطاء التي يقع فيها المسؤولون، كتابة اللافتات التي تجمع ما بين العربي والأجنبي، لهجات وسائل التواصل الاجتماعي، ودخول الكلمات الأجنبية في حواراتنا وتدريس اللغة الأجنبية في الصفوف الدراسية الأولى.
أما عن ثالث أهم مكون في الهوية العربية هي البيئة المحيطة، إذ تعمل على تشكيل الهوية ولو بصورة أقل شيئا ما عن تأثير كل من اللغة والدين، إلا أن تأثيرها يبقى متغلغلا وقد يستحيل اقتلاعه، فبعض البيئات بفعل طبيعة البيئة المحيطة تكسب العديد من العادات والتقاليد في المأكل والمشرب والملبس وفي العديد من نواحي الحياة، ومن المعروف أن تلك العادات والتقاليد المكتسبة من المكونات الرئيسية في تشكيل الثقافة ومن ثم الهوية.
يأتي في المرتبة الأخيرة التراث، ويُقصد به التراث الثقافي ذو المدى الطويل المرتبط بوجود المسلم بفكره وقيمه وعاداته وتقاليده، ونعني بالتراث تحديدا الأمور الآتية: التاريخ الوطني المشترك، والإبداع الفكري والعلمي للقدماء، والثقافة الشعبية، والحقوق والواجبات المشتركة وأخيرا الاقتصاد المشترك.
يُعدُّ الإعلام – بأجهزته المختلفة المسموعة والمرئية والمقروءة: الراديو والتلفاز والصحف والمواقع الالكترونية – من الروافد الأساسية التي تملك التأثير الواضح والعميق في قطاعات الشعب المختلفة بما تملكه من أدوات تستطيع بها بسهولة النفوذ إلى العقول، ومن هنا تأتي الإشكالية، فإما أن تكون هذه الوسائل الإعلامية عاملا إيجابيا في الحفاظ على الهوية بمفهومها ومكوناتها ومبادئها، أو أن تكون عاملا سلبيا، يحط من قدر الهوية، ويكون خنجرا تهتك به ستر هذه الهوية وما تقوم عليه. وأخيرا يمكن القول إن هذا العالم يسوده الصراع على الصورة والرأي العام، إذ تعاني دول وشعوب كثيرة من أزمة الهوية، وفي عالم أصبح الواقع الذي تقدمه الصناعات الإعلامية والثقافية واقعا مفبركا ومصطنعا بعيدا كل البعد عن الحقيقة.
