قصة قصيرة عن الفلسفة اليونانية

زهرة السعيدي

نتخيل أن الفلسفة قد بدأت مع سقراط وأفلاطون، ثم أصبحت في شكل واضح ومحدد مع أرسطو، لكن يبدو أن لنيتشه رأيا آخر؛ حيث قال: ”تقدم الإغريق بسرعة، وبمثل هذه السرعة المخيفة انحطوا إلى الحضيض. حينما استنزفت العبقرية الهيلينية أفضل ما لديها، سقطت إلى الهاوية بأقصى سرعة. لا بد وأن السقطة قد حدثت فجأة، فتوقف أعظم نمط للحياة، انتهت في لحظة واحدة، تماماً كمأساة. جاء شخص مهووس جبار مثل سقراط فحدث تمزق يتعذر ترقيعه؛ حيث وصل عنده خراب الذات إلى صورته الكاملة".. حتى نفهم ما الذي عناه نيتشه هنا لا بد أن نعود للوراء قليلاً على الخط الزمني الذي رسمه عبد الرزاق بلعقروز في مقاله الرؤى اليونانية للعالم ومنزلة الإنسان.

ونعرف من خلال الأدب والفن الإغريقي الذي وصلنا أن اليونانيين فيما قبل القرن السابع قبل الميلاد كانوا ينسبون الحوادث الطبيعية إلى قوى خارقة تفوق الطبيعة والقوانين الفيزيائية،  وكان الحدس هو أداتهم الأولى في فهم العالم وملئه بالمعنى. ربما يكون أجمل ما في تلك الحقبة هو اللجوء إلى الشعر وإضفاء طابع القداسة والسحر في تفسير الأحداث، بدلاً من استخدام القواعد واختزالها في المفاهيم. هذا بالإضافة إلى القصص الأسطورية التي تستكشف الإنسان وصراعاته ومصيره وعلاقته بالألم والموت والقدر. كان الإغريق في هذه الفترة يؤمنون بالخيال وحرية الأفكار والتعدد، وربما يكون سبب ذلك هو تعدُّد الآلهة، على رأي نيتشه؛ لأنَّ الأسطورة التي قدمها هوميروس لليونان كانت هي المحرك الأساسي للخيال وجمال الأفكار؛ لذلك ولع نيتشه بالتراجيديا اليونانية وكانت أحد سبله في محاولة إصلاح الثقافة التي يعوزها الفن الذي قتلته القيم العقلانية. يقول بارتليمي سانتهيلر: "لو كانت ديانة الهيلينين أكثر جدية مما كانت عليه لأوشكت فلسفتهم وعلومهم أن تكون أقل في الجدية مما كانت عليه بكثير".. هذا التفصيل مهم لأنه سيشرح لاحقاً موقف نيتشه من سقراط والقيم العقلانية والتوحيدية التي بدأت معه.

لم تكن الأسطورة والتراجيديا مجرَّد مشاهد مسرحية للترفيه واللعب، وإنما كانت تعبيراً عن الأحداث، وتمثيل الوجود بأنه شيء مرعب وعبثي، ولكن في الوقت ذاته يستحق المعاناة والألم. ولا يمكن القول إنَّ الأسطورة اليونانية قد توقفت عند نقطة معينة على الخط الزمني، فحتى مع توسع العقلانية وإخضاع الفلاسفة اللاحقين كل فكرة ومذهب لنظام العقل، إلا أنها ما فتئت تغذي أنماطاً سحرية مختلفة أكثر حداثة.

 

الطبيعة

قال طاليس: ”إن الماء هو حقيقة الأشياء وليس الإنسان“؛ وبذلك أعاد الأشياء إلى أصل واحد، وألغى الاعتقاد القديم القائل بأنَّ الحقيقة تكمن في الإنسان؛ حيث نقلها منه إلى الطبيعة بإعادة أصل الموجودات إلى الماء، وكذلك أقصى الأساطير من نطاق تفسير أحداث الكون. وفي هذه الحقبة التي بدأت تقريباً في نهاية القرن السابع قبل الميلاد هدأت الأسطورة قليلاً وأفسح السحر والخرافة المجال للتفسير العقلي بدخول المشهد. يتفق نيتشه مع أرسطو في أن طاليس هو الفيلسوف الأول الذي فكر بالفلسفة العلمية، ولكن يختلف معه في تأويل فلسفته. ففي حين أوَّل أرسطو مقولة طاليس بأنَّ الماء يغذي كل شيء، يقرأ نيتشه هذه العبارة باعتبارها القفز من الملاحظة الحسية إلى النظام العقلي ومن ثم مشاركته مع الآخرين عبر اللغة والمجاز؛ لذلك قد يكون قصد طاليس بإعادة أصل الأشياء إلى الماء هو مجاز للتعبير عن وحدة الوجود.

وبهذا؛ انتقل التصوُّر الأسطوري والديني عن الإغريق تدريجيًّا من الخيال إلى الطبيعة ومن الشعر إلى النثر ومن الجو الساحر إلى إقامة الأدلة والتعليل الطبيعي للأحداث.

 

الأخلاق

دمَّر السفسطائيون إيمان الأثينيين بالآلهة والآلهات، وأرسوا شكلاً جديدا للخطاب الفلسفي باعتبار الذات الإنسانية محور التفكير والمدنية مسكنه، واستحدثوا قيما جديدة أخلاقية وفكرية وفردانية، فأصبحت مكانة الإنسان أعلى من أي وقت سبق. تعرف الإنسان حينها على الحرية وتقرير المصير وأصبح مدركاً لأن العالم يضم ثقافات ومعتقدات أخرى. توافقت رؤية سقراط في توجيه الاهتمام نحو الإنسان مع رؤية السفسطائيين، لكنها اختلفت معهم في طبيعة الإنسان والنظام الأخلاقي الذي يجب وضعه. رأى سقراط أنَّ الفلسفة اليونانية بدأت بالاعوجاج بسبب السفسطائيين وما أحلوه من اضطراب بسبب تعليلهم المادي المجرد لكل قضايا الكون؛ حيث رأى أنَّ نظرياتهم لم تكن منطقية ولا مجدية أخلاقيًّا؛ لذلك انصرفَ إلى دراسة الأخلاق والمنطق، وبالتحديد ركز على فضيلة عيش الحياة بأفضل صورة ممكنة. لم يهتم سقراط بأصل العالم وطبيعة الحقيقة، وإنما عدها بلا قيمة أمام معرفة الإنسان والارتقاء بالعقل العلمي "إلى رتبة الفضيلة".

قد يتَّفق نيتشه مع سقراط في أنَّ الفلسفة اليونانية قد بدأت بالانحطاط في تلك الفترة، لكن ليس بسبب السفسطائيين، وإنما بسبب سقراط نفسه.

ويعتبر العالم أنَّ عصر سقراط ومن أتى بعده من الفلاسفة في تلك الحقبة هو عصر الفلسفة الذهبي والفترة التي وصلت فيها الفلسفة اليونانية أوجها واكتمالها، لكنَّ نيتشه لا يتفق، كما ذكرت سابقاً، مع ذلك، بل يعتبرها مرحلة انحطاط وفساد الإغريق.

من قرأ كتاب أفلاطون محاكمة سقراط، يعرف أنَّ سقراط كان رجلاً فاضلاً حكيماً؛ فقد قال عنه أفلاطون نفسه إنه كان "أحكم وأعدل وأفضل جميع الرجال الذين عرفتهم في حياتي". ما الذي جعل نيتشه إذن يصوره شريراً في كتاباته وينعته بأبشع الصفات؟ حتى نعرف الجواب لا بد أن نفهم أولاً الحميمية التي يرتبط بها نيتشه مع التراجيديا الإغريقية (فن المأساة). لطالما اعتبر نيتشه الفلاسفة ما قبل سقراط من أمثال هيرقليطس وأناكسيمندريس هم الفلاسفة اليونانيين الحقيقيين؛ فهم شُجعان لا تعرف قلوبهم الخوف؛ فرغم معرفتهم أنَّ العالم مأساوي وأن الوجود مرعب إلا أنهم لم ينبذوه وإنما فاضوا بالحياة وبالغرائز الأرضية وانغمسوا في الوجود وتساءلوا عن قيمة الحياة. ومن خلال دراسة نيتشه لفلسفة سقراط وتحليله لها توصل إلى أن سقراط تواطأ مع الكاتب المسرحي ويربيدس في إعدام الفن والنظرة المأساوية للحياة وآثر التفاؤل الذي يعد به العقل والمنطق والجدل، معتقدا أنَّها قد تكشف له طرقا لفهم العالم.

الأمر الآخر الذي يمقُته نيتشه في فلسفة سقراط هو معادلة: معرفة = فضيلة = سعادة؛ لأنَّها ترفع من الحقيقة التي نصل إليها بالعقل إلى منزلة الفضيلة، وتنزل بالحدس والغرائز منزلة دنيا؛ بحيث لا يمكن الاعتماد عليها في الوصول للحقائق.

ويقول نيتشه إنَّه عرف من خلال تنقيبه في أيام سقراط الأخيرة، أي قبل تجرُّعه السم أنه قد تفطن إلى أخطائه، وأنه استشهد قبل رحيله بأشعار ديونيسوس المأساوية: "ها هو صوت القدر يناديني على حد قول شاعر المأساة. ولا بد أن أجرع السم عما قريب".

أخبار ذات صلة