هنية الصبحية
يُناقش الباحثُ المغربيُّ وأستاذ علم الاجتماع الديني رشيد جرموني -في مقاله المنشور بـ"مجلة التفاهم"- "القيم الخلُقية والدينية وإشكاليات الإطلاق والنسبية في المجال العالمي"، وقد تضمنت مناقشته إشكاليات التحولات الأخلاقية والقيمية في عالمنا، والإطار النظري والمفاهيمي لمصطلح القيم، وبعض مظاهر وتفسيرات تحولاتها الأخلاقية والدينية في المجتمعات المسلمة.
ويُحاول الباحث في دراسته الإجابة عن التحولات الأخلاقية والقيمية التي جرت في عالمنا اليوم -ما بعد الحداثة- والتي تؤثر في مسارات حياة الأفراد والجماعات، وأبرز تحولاتها ومظاهرها الكبرى والعوامل المفسرة لتلك التحولات والاتجاهات الكبرى لمسار التحول من خلال الإطار النظري والمفاهيمي لمصطلح القيم، وتحديد مساره الفلسفي والسوسيولوجي، كما أنه أشار إلى وظيفتي القيم، والتي حدَّدها في الآتي: وظيفة تُعنى بالمحافظة على تماسك وحدات التجمع الإنساني بدءا من الأسرة بمختلف أشكالها إلى المدينة والدولة والمجتمع الإنساني العالمي، تتمثل هذه القيم في الانتماء والولاء والوفاء؛ وهذه القيم تعزز الروابط بين الأفراد، وتوجه السلوك الإنساني نحو رعاية الآخر والحرص عليه. والوظيفة الأخرى تُدعى "القيم المحركة"، والتي تُعنى بتحريك النشاط الإنساني وزيادة كفاءته والعمل على تعظيم آثاره ونتائجه، ويجسد ذلك ثلاث قيم؛ تتمثل في: الإيمان بالعلم منهجا لدراسة الكون، والالتزام بالمنهج العلمي العقلي الصارم ومن ثم الإعلاء من قيمة العمل، وأخيرا تعزيز قيمة الوقت بوصفها سبيلا لنهضة الأمم. وإضافة لاستعراض مفهوم الدين من جانبين؛ هما: حسب التحديد اللغوي والمعياري للدين، وحسب التحديد السوسيولوجي الذي ارتبط بنشأة علم الاجتماع الديني. كما أشار إلى أنَّ التدين يشكل الكيفية التي يعيش بها الأفراد والجماعات تجربتهم الدينية؛ وذلك من خلال التفاعل مع أشكال الفهم والاستيعاب والتطبيق والتمثل للمكونات الأساسية في الدين.
أضاف الباحث أنَّ فلسفة ما بعد الحداثة تتميز بثلاث نزعات أساسية؛ هي: النزعة الاستهلاكية التي تتجاوز مجرد السلوك الاستهلاكي اليومي العادي والمعقول؛ بحيث يتجاوز ذلك المحفز الواعي وغير الواعي الذي يحمل الإنسان إلى تحديد هُويته في كونه مستهلكا مستلهما الكوجيطو الديكارتية التي تدعو "أنا أستهلك إذن أنا موجود"؛ فكينونة الإنسان المعاصر مرتبطة بمدى وطبيعة استهلاكه؛ فالاستهلاك هو الغاية للتحقق بالوجود، والنزعة الفردانية المتأثرة بالنزعة الاستهلاكية الداعية لقيم الفردانية؛ حيث إنه كلما تعزز الشعور لدى الفرد بالحاجة لمزيد من الاستهلاك، زاد التقوقع نحو الذات بصورة أكبر، فعصر الفردانية هو مزيد من الانهمام نحو الذات وتصبح الأسرة والعشيرة والدولة تضحية من أجل الجماعة. والمشهد الاقتصادي يُشكل تعبيرا متكاملا وواضحا للنزعة الفردانية، ويؤكد الباحث أنَّ عصر ما بعد الحداثة تحرير متواصل للفعل الاقتصادي وترسيخ قيم الاغتناء والربحية، إضافة إلى توليد قيم الاستهلاكية والتلذذ. وأخيرا، النزعة العدمية التي تأخذ أبعادها من الفلسفة النيتشية؛ حيث ترى الإنسان ما بعد الحداثي لا يفكر إلا باللحظة الراهنة، مع عدم وجود غاية للدورة الزمنية التي تؤدي لانتشار السلوك الانتحاري المادي والاستغراق في المخدرات واليأس من الحياة؛ وبذلك يسود التشاؤم والموت والنهاية والإيمان بعدم وجود حقيقة.
ويوضح جرموني أنَّ هنالك أربعة مظاهر للتحولات القيمية؛ أولها: قيم كانت سائدة وما زالت موجودة في المجتمع لكن شكلها تغير، ثانيا: ظهور قيم جديدة عوضت قيما قديمة، ثالثا: موت قيم قديمة دون أن يتم تعويضها بقيم أخرى جديدة، كقيمة الطاعة بمعنى توقير العلم والعلماء والمعلمون والأساتذة، وأخيرا: ظهور قيم جديدة لم تكن معروفة، كقيمة عودة الذات كما سماه آلان تورين، وقيمة الاستهلاك المفرط التي أصبحت تغزو كل المجتمعات والأفراد والخصوصيات المسلمة بشكل خاص. ومن خلال ذلك، يناقش الباحث أنه ليست كل هذه التحولات سلبية، وإنما يوجد بعض الجوانب الإيجابية، ولكن الأهم في ذلك ما تفسير هذه التحولات وأسبابها القيمية والأخلاقية التي حدثت في المجتمعات المسلمة، وتحديدا في مؤسسات التنشئة؛ أولها: تأثير القيم العولمية على الفئات والجماعات والأفراد حيث أزالت الحدود بين البلدان وأظهرت ثقافات جديدة وكشفت عن رموز حديثة للهوية كثقافة السوق التي خلفت فجوات كبيرة بين الجيلين، ثانيا: التوجهات الديمقراطية الجديدة التي خلفت ثقافة حقوق الإنسان وتقدير الذات، ثالثا: ارتفاع الرأسمال الثقافي، وأخيرا: تراجع دور المؤسسات التقليدية وانهيار شبه كلي لتأثيراتها، كسلطة المساجد والمدارس والأسر في إنتاج وإعادة القيم المجتمعية والحفاظ على استمراريتها.
ويؤكد الباحث أنَّه مهما تراجعت أدوار المؤسسات الدينية في ظل التطورات العالمية، إلا أنَّه لم يؤثر في تراجع الاهتمامات الروحية للإنسان المعاصر، ويمكن القول بأنه أدى إلى إعادة توجيهها. ويشير سرجوني إلى أنَّ سبب أزمة الحداثة هو تعددية القيم وتعدد مرجعياتها، وتنازع الفاعلين حول المرجعية المولدة للمعنى؛ فالأفراد ليس لديهم إشباع على مستوى تناسقية القيم، والقيم العامة لا تجد طريقها للتطبيق بشكل موحد وملائم في جميع مناحي الحياة المجتمعية، وما يمكن أن يؤدي إلى ضياع المرجعيات، وأنه لا توجد حقيقة موحدة للجميع.
وفي ذلك السياق، يمكن القول إنَّ التحولات القيمية أدت لبروز مجموعة من الظواهر السلبية كظواهر اللامعيارية والصدمة والقلق من المجهول وفقدان الاتجاه...إلخ، الذي يجعل الفرد في دوامة من التساؤلات: هل هو في الطريق الصحيح أم لا؟ فالتعدد المرجعي في التدين أصبح يشمل جميع المجتمعات، ويؤكد أن البُعد ما بعد الحداثي في التوجه الديني وصل إلى تعددية دينية وافدة مختلفة الأسس العقائدية كالوثنية والسماوية، مؤكدا أن المزج والانتقال بين خليط متنافر من الاعتقادات، وبذلك أصبح الدين يخضع لمنطق الاستهلاك، استهلاك تعددية الألوان الدينية المتاحة في الأسواق العالمية.
ويُشير جرموني إلى أنَّ التحولات الأخلاقية والدينية في المجتمعات المسلمة بالغة التعقيد والتركيب، ويلخص التهديدات التي تواجه تلك الأنساق والمرجعيات، أولها: بروز ظاهرة السيولة في التعاطي مع المرجعيات الدينية والأخلاقية، بحيث يصبح كل فرد مرجعا لذاته ومنطلقاته ورؤيته في الكون، ثانيا: النزعة التشكيكية في المقدسات والثوابت، بحيث تبحث لنفسها عن منطلقات جديدة تقوم على تقديس العقل والعلم كظاهرة الإلحاد الديني، ثالثا: انبثاق موجة استهلاكية لكل القيم والمرجعيات، بحيث تعبر عن عمق التحول الذي مس البناء الثقافي للمجتمعات المسلمة.
وفي الجانب الآخر، يوضح جرموني أن هذه التحليلات والرؤى لعصر ما بعد الحداثة يشكك في مصداقيتها كونها لا تحمل المعطيات العلمية، مما جعل بعض علماء الاجتماع كريمون بودون يؤكد أن المجتمعات الأوروبية الغربية ما زالت تحافظ على مجموعة من القيم التقليدية كقيم الأسرة والعمل والقيم السياسية.
ويقترح الباحث مجموعة من المقترحات بشكل متسلسل، مشيرا إلى أن في المرحلة الأولى لا بد من ضرورة تفكيك الخرائط الدينية والأخلاقية والقيمية من خلال الاعتماد على البحث العلمي؛ لاستيضاح الصورة، ومن ثم تقديم إصلاحات جريئة ونوعية في البرامج والمناهج والمقررات التعليمية والتربوية، وأخيرا تطوير الأداء الإعلامي الإسلامي بما يتناسب مع تطلعات الأجيال الجديدة، بحيث يضمن الأمن الروحي والثقافي والقيمي للفرد، ويضمن جسور التواصل بين الأجيال والمرجعيات، فلا حضارة من دون قيم دينية وأخلاقية موحدة وموجهة، مع وجود تعددية تُربّى على الاختلاف والتنوع والقبول في إطار مطلق موحد.
