مودة الحوسنية
تحدَّث الأستاذ عبدالهادي أعراب في مقاله "التعليم الديني في الجوامع القروية"، والمنشور بمجلة "التفاهم"- عن عدة أمورأهمها : أهمية التعليم الديني وضعفه المؤسسي والتعليم القرآني القروي، وما تبقى منه في الوقت الحاضر وأهمية الجوامع بالأوساط القروية.
يعدُّ الجامع بالوسط القروي مؤسسة جماعية مشتركة بين أهل الدوار، وجزءا أساسيا من بنياته الأساسية؛ فهو ليس مجرد مكان للعبادة أو مسجد فقط؛ لأنه فضاء يحتضن وظائف مختلفة كتعليم الأطفال وغسل الموتى، وهو أيضا مكان لاجتماعات السكان وتدارس شؤونهم المحلية. وباحتضانه للمسجد المخصص للصلاة فهو يتمتَّع بقداسة خاصة، ويحتل موقعة أساسية بين مجموع المساكن المؤلفة للدوار، فهو مركزها الذي تلتف حوله، ومنه تنطلق معظم الأنشطة القروية اليومية.
1- التعليم الديني: بين أهميته وضعفه المؤسسي
ظل الجامُع لفترات طويلة في المغرب مؤسسة أساسية للمعرفة والتحصيل بالوسط القروي الذي عانى صنوف التهميش، وبقي سكانه بمنأى عن دوائر الثقافة الرسمية. فإلى جانب الزاوية والمدرسة العلمية مثل البوابة الأولية للتكوين الديني والعلمي بهذا الوسط، ففيه يتعلم الصبية مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن. وهو مؤسسة جماعية تتمتع باستقلالية كبيرة؛ لأن كل ما يحتاج إليه الصبية للتعلم من أدوات بسيطة توفره الجماعة؛ لكن رغم كل هذه الأهمية تعرض التعليم القرآني والديني بوجه عام لانتقادات شديدة سواء من طرف باحثين أجانب أو من قبل مغاربة. يرى فرناندو مارطنيث فيه تعليما دون برامج أو قوانین خاصة ومستقلة؛ لأنه يتم داخل أماكن العبادة وممارسوه لا يحملون أي شهادات مميزة، ومتلقوه لا ينعمون بأجواء التعليم الصحية. أما المختار السوسي فبعد عرضه لنظام التعليم القرآني وخصوصياته نجده يحاكمه بالعقم والفشل.
تجدر الإشارة إلى أن المساعي اتجهت من وراء هذا التعليم الديني إلى تعميق البعد التربوي والأخلاقي أكثر مما ارتبطت بتحصيل المعرفة وحدها؛ لذا نجده غير منفصل عن تلقين الشعائر الدينية ومعرفة الفرائض والسنن الدينية، مما هيأ له القدرة على أن يدمج الفرد القروي في محيطه الجغرافي والاجتماعي. إلا أن موجة التحولات الكبرى أسهمت في التأثير على وظيفة الجامع التعليمية، ووضعت القرويين أمام خيارات تعليمية وتنشئية جديدة؛ وبالتدريج فقدت الكتاتيب القرآنية زبائنها وصار توجههم للمدرسة العصرية بحثا عن معرفة مغايرة تمكنهم من تأمين مستقبلهم وتحسين ظروفهم الاجتماعية والأسرية.
2- ماذا تبقى من التعليم القرآني القروي؟
أ- القرآن وشكل تلقينه:
مثَّل حفظ القرآن أهم محتوى يتم تلقيه بالجامع، بل أهم رصيد ينبغي أن يتوافر في فقيه الشرط كمدرس قرآني، لهذا كانت الجماعة نفسها لا تهتم في التعاقد الذي تجريه معه سوى بمستوى حفظه وتمكنه من القرآن. إن أهمية الحفظ القرآني تستند إلى مبررات دينية وثقافية وتعليمية تنسجم مع ثقافة المجتمع الإسلامي؛ فقد لاحظ أيكلمان أنه حتى في المناطق التي لا تتوافر فيها النصوص يتصرف أهلها كما لو كانت موفورة لديهم؛ لأن تثمين المعرفة لا يكون إلا إذا كانت هذه الأخيرة راسخة ومحفوظة في الذاكرة. إنَّ القيمة الاجتماعية والدينية والمعرفية لحفظ القرآن هي ما يبرر الإقبال الشديد الذي كان يبديه المتعلمون في الأوساط القروية، متحملين في ذلك المشاق والمتاعب الذهنية والجسدية التي تميز هذا الأسلوب التعليمي.
ب- القراءة والكتابة:
لا يتعلق الأمر باستثمار القراءة والكتابة بصورة واسعة لإنتاج أشياء مكتوبة؛ إنما يقتصرعلى قراءة النصوص القرآنية والقدرة على كتابتها بالرسم القرآني الخاص والمتداول في الكتاتيب القروية، أما عن قراءة القرآن عبر مصحف فهي غير واردة ما دام خريج الجامع القرآني يكتفي باستذكار محفوظه القرآني وتلاوته ذهنيا.
إن الاعتماد على التقاليد الشفهية لا يعكس ضعفا ثقافيا لصالح الكتابة؛ لأن الشفاهي لا يقل عن المكتوب قيمة وعمقا؛ كما أن منتجي الشفاهي ليسوا أقل شأنا من منتجي المكتوب، فقد أوضح ديسبرمت أن الكتّاب القرآني استطاع أن يرسخ الشعر الديني، كما منح المتعلمين به فرصة التمرن على تأليف الأهاجي وجمع وصفات السحر المكتوبة والتنجيم ومبادئ العرافة وضرب الرمل ولعل فقهاء الشرط مثال قوي لمستويات التداخل بين الثقافتين.
3- التعليم القرآني: ثوابت ومتغيرات
أ- محاكاة للمدرسة:
في سياق تقليد المدرسة ومواجهة الضغط الذي مارسته على الكتّاب القرآني منذ سبعينيات القرن المنصرم؛ سعى عدد من الفقهاء إلى تغيير طرق تعليمهم واستبدال أخرى جديدة بها، ابتدأ مسلسل هذه المحاكاة التي يراها هؤلاء محاولات تجديدية بشكل عفوي لتتحول تدريجيا إلى شبه موضة انتقلت إلى معظم الجوامع القروية قادها فقهاء شباب ممن سعوا بذلك إلى مقاومة المنافسة الشديدة التي يمثلها النموذج المدرسي. ظل جوهر التعليم القرآني على حاله؛ فما زال القرآن أهم محتوى تعليمي، حيث يلقن الفقيه المبادئ الأولى للكتابة انطلاقا من رسم الحروف الهجائية على السبورة لتنقل بعد ذلك إلى الألواح، وقد أكد لنا أحد الفقهاء أنه يترك فسحة زمنية لصبيته لممارسة بعض التمارين الرياضية بجوار الجامع رغم عدم توافر مكان مناسب للقيام بذلك.
ب- اختفاء أساليب العقاب الجسدي:
إنَّ القسوة الشديدة للفقيه من باب التأديب كان يستحسنها الآباء ويلمسون فيها اهتماما بأبنائهم؛ لأن الاعتقاد السائد يرى أن العصا من الجنة، فكان العقاب يجد رضا کاملا من لدن الأب الذي يراه جزءا مكملا لتأديب ابنه خارج البيت. يلخص المختار السوسي هذه الصورالعنيفة لطرق تأديب الفقيه في قوله: "ينبطح التلميذ بين أربعة كبار ثم لا يصل الأرض بطنه، بل يبقى معلقة بين هؤلاء الأربعة، فينبعث الطالب وقد ألقى عليه رداءه وتجرد ولم يبق عليه إلا قميص خفيف وفي يده حبل متين، ثمَّ يعمد بكل ما في طوقه من الجلد والقوة والمنة في جلد جنوب التلميذ الممدود، فلا تكفي أربعون أو سبعون".هذا العقاب الجسدي بات من ذكريات الماضي التي تختزنها أجساد مسنين من الفقهاء والقرويين على السواء. لقد اختفت مثل هذه الطرق العنيفة في التأديب، فالفقيه اليوم بات حذرا في تعامله ولم يعد بإمكانه أن يمارس سبل الغلظة والشدة نفسها.
ج- على خُطى الكتاتيب العصرية:
توجَّهت الدولة منذ 1968 نحو إعادة هيكلة الكتاتيب القرآنية لتصبح مواكبة للتحولات الجارية آنئذٍ، وتدخلت وزارة التربية الوطنية على مستوى الإشراف وإنتاج الكتب المرجعية والمذكرات التربوية كما تولت مهام المراقبة والمتابعة والتوجيه والتقويم وتمت أيضا إضافة عناصر جديدة للكتاب القرآني، كتقسيم التلاميذ إلى مستويات، واستعمال وسائل عصرية مما لم تعهده الكتاتيب القديمة. نؤكد أن ما عرفته الكتاتيب القروية بمجتمع الدراسة من تغيرات كانت تلقائية وبعيدة عن أي تدخل من أي جهة أو طرف رسمي.
ومهما يكُن من أمر يبقى الجامع مؤسسة مقدسة؛ لأن المتعلم به يحفظ کلام الله المقدس بما يتضمنه من أوامر ونواهٍ محددة للسلوك، كما يتشبع داخله بقيم الاحترام والطاعة، ممثلة في احترام الأبوين والمسنين وأهل الدوار، وهي القيم التي ترضي طموحات الآباء من تعليم أبنائهم. ويبدو أن قداسة هذه المؤسسة تتجاوز الجانب التعليمي إلى جوانب أخرى أكثر سموا، فإذا كان التعلم بالمدرسة موجها لأهداف دنيوية؛ فإن المأمول من التعلم بالكتاب القرآني أكبر وأعظم؛ لأنه يتصل بالدين والعبادة، بل يتم الربط بين التعلم به والفوز بالجنة.
