وليد العبري
يُنقل عن إمبرتو إيكو قوله: "إن لغة أوروبا هي الترجمة". لا شك أنَّ المفكر الإيطالي يقصد أنه لم تكن هناك لغة موحدة للبلدان الأوروبية -على غرار السوق الموحدة للاقتصاد- فإن الترجمة هي اللغة القادرة على مد الجسور بين تلك البلدان والتأليف بينها. لست أدري لم يذهب إيكو إلى القول: "إن لغة العالم هي الترجمة"! هذا -على أي حال- ما كان يعنيه صاحب الديوان الشرقي للمؤلف الغربي"، عندما كان يقول: "إن الترجمة أداةٌ لبناء الكونية".. كانت هذه المقولة في سياق ما يدعوه جوته "الآداب العالمية".
ويوضِّح الكاتب عبدالسلام بنعبد العالي -في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"- أنَّ شاعر ألمانيا العظيم يقصد بذلك أن الأدب القومي يتسع ليحتضن آدابا أجنبية؛ ذلك أن ما يعنيه بـ"الآداب العالمية" ليس هو مجموع الآداب الماضية والحاضرة، التي من شأن نظرة موسوعية أن تستحضره، وليس هو بالأحرى مجموع الأعمال الكبرى التي استطاعت أن ترقى إلى مستوى الكونية، وتغدو تراث الإنسانية المتحضرة؛ إن الآداب العالمية عنده مفهوم تاريخي يهمُّ الوضع الحديث، الذي تتخذه العلاقة بين مختلف الآداب القومية. عصر الآداب العالمية في نظر الديوان الشرقي هو العصر الذي لا تكتفي فيه الآداب بالتفاعل فيما بينها، بل تدرك وجودها، في إطار تفاعل ما يفتأ يتزايد.
وإن كان مفهوم الانتعاش هذا بعيدا عن مفهومنا الآن عن التحديث بعد الآداب العالمية عن الأدب المعولم، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن مفعوله على الأدب غير بعيد عما نعنيه بمفعول التحديث؛ من حيث هو انفصال للذات عن نفسها، وخروج الأدب عن ذاته واستنباته في غير موطنه. فعندما تذبل الآداب القومية فإنها تنتعش وترى الحياة من جديد عن طريق الآخر.
ليس الانتعاش إذن مجرد بعث ونهضة جديدة، وإنما هي إعادة لبناء الذات، إنها إعادة النظر في القومي والمؤتلف الإنساني معا، وهي تبدّل ونسخٌ وفسخٌ، إنها -كما يقول جوته- تناسخ للأرواح، وأحسن أشكال التناسخ -كما يقول- هو أن نرى أنفسنا وقد عدنا إلى الحياة في الآخر. يذهب جوته أبعد من ذلك، فيرى أن الآخر يبعث الذات من مرقدها، إنه يضمن لها البقاء. هذا ما سيقوله فيها بعد مواطنه بنيامين عن الترجمة، من حيث إنها ما يضمن بقاء النص ودوام حياته.
لو وضعنا هذا الإحياء على مستوى الوطن، على المستوى الخصوصي وعلى مستوى المؤتلف الإنساني؛ لتبين أن مدى الدور الذي يمكن للترجمة أن تلعبه في تجسير العلاقة بينهما، بل في إعادة النظر في القومي ذاته. يروي أحد المؤرخين الفرنسين لنظريات الترجمة أنه في سنة 1808م -وفي خضم الاحتلال النابليوني لألمانيا- أراد بعض المثقفين في ألمانيا وضع أحسن الأشعار الألمانية؛ كي تكون في متناول عامة القراء، وبطبيعة الحال لم يكن المرمى القومي لهذا العمل ليخفى على أحد، خصوصا في الظروف التي كانت تمر بها البلد.
لا عجب إذن أن ترتبط الترجمة -في كثير من اللغات- باستعارة العبور والنقل والتجسير. والظاهر أن هذا الارتباط لا يكفي بالإشارة إلى عملية الوصل التي قد يفهم منها -في بعض الأحيان- الدمج والإدغام. وإنما هو يدل بالضبط على المعنى الذي رأيناه عند المفكر الألماني في تحديده للأدب العالمي. من أجل توضيح هذا المعنى ربما وجب علينا أن نتوقف قليلا عند مفهوم الجسر ذاته.
الجسر -كما تعرِّفه كثير من القواميس العربية- هو "القنطرة ونحوه مما يُعبر عليه"، لأنه ما يربط ضفتين، ما يُوصل طرفين، وما يشكل وسيلة للاتصال والتفاهم. يمتد هذا الاتصال من المعنى الحسي المباشر إلى المعاني الرمزية التي تدعو جسرا كل ما يربط فيما بين الشعوب والثقافات واللغات، ساعيا إلى أن يوحدها أو يقارب بينها فيسمح بالوصل والتلاقي.
لكن مما يُثير شيئا من الاستغراب كونُ بعض المعاجم العربية -وعلى ذكر المعاجم فلا ينبغي أن ننسى أنها هي كذلك جسور- بدلًا من أن تقتصر على هذا الوجه الانفصالي في تحديد الجسر لا يقف عند المعنى اللغوي للفظ فحسب، وإنما يجد دعامته في الفكر الفلسفي، وعند واحد من أكبر الفلاسفة المعاصرين، عند مفكر ألماني آخر.
يرمي الجسر إلى الربط بين المتعارضين من غير أن يدمجهما، وهو يوصل فضاءين متباعدين من غير أن يوحد بينهما. بتعبير جيل دولوز: الجسر هو مولد الاختلافات، ما به يتلاقى المخالفان ويثبتان ذاتهما بفضل الاختلافات. بهذا المعنى لا يمكننا التفكير في المتعدد من غير إقامة جسور بين الاختلافات، من غير أن نؤكد الاختلافات في علائقها المتبادلة. ها هنا تغدو الخصوصيات علائق لا تحيل إلى أطرافها المكونة بقدر ما ترد إلى الجسر الرابط / الفاصل بينهما.
العلاقة هي الأصل في الذات، وليس العكس. العلائق هي ما يُولد الأطراف، وليست هي ما يتولد بين الأطراف. هناك أولوية للعلاقة على الأطراف والحدود. فلا شيء يتحقق بذاته، كل عنصر يتولد عما يتجاوزه. ولا وجود لكل موحد يقضي على الأطراف، ومن ثم على المشترك بينهما. كل ما يوجد هو الانفتاح اللانهائي وحركة التداخل والتعدد التي لا تنقطع. ها هنا يغدو الكائن ترابطا ظرفيا حركيا لا يخضع لأي مبدأ قار، وتصبح الوحدة مفهوما ثانويا، أعني يأتي ثانية، ما دامت توليفا بين أطراف. لن يعود الاختيار مطروحا بين الوحدة ونفيها، وإنما بين وحدة مفتوحة على إمكانات متعددة.
الجسر لا يلاقي بين ضفتي نهر وحسب، وإنما يلاقي فيما بين النصوص، بين اللغات وبين الأوطان والثقافات. إنه ينقل أيضا لغة إلى أخرى، ويجر بلدا نحو آخر. يشبه موريس بلانشو عمل الترجمة -وهي تحاول التقريب بين لغتين- بعمل هرقل وهو يحاول التقريب ما بين ضفتي البحر. هذا العسر وهذه الصعوبة التي تتطلب قوة جبارة في مثل قوة هرقل -شأن كل جسر- إذ تحاول أن تقرب فيما بين اللغات؛ تعمل -في الوقت ذاته- على خلق الاختلاف بينهما وإذكاء حدته. وعلى هذا النحو، فالترجمة لا ترمي هي كذلك إلى إلغاء الاختلاف بين اللغتين؛ وإنما تسعى إلى رعايته وتوظيفه.
الترجمة عبور وحركة انتقال لا تنفك بين "أصل" ونسخة، إنها لا ترمي إلى أن تجر ضفة إلى أخرى، لا تريد أن تجر لغة نحو آخرى؛ وإنما تسعى لأن تقيم جسرا، وتخلق لغة ثالثة تلاقي بين لغتين، بين نصين وثقافتين وموطنين. إن الترجمة -شأن كل جسر- لا تقضي على الاختلاف ولا تلغيه، وهي لا تصهر الطرفين في وحدة مطلقة؛ بل تربط أحدهما بالآخر، فتحول القرب والبعد بين الأشياء والإنسان إلى مجرد مسافات، على حد تعبير هايدغر. وهي مسافات يمكن قهرها بمجرد قطعها.
الجسر فضاء يحول الانفصال بين ضفتي النهر إلى مجرد بُعد مكاني، فيجعل الإنسان يشعر أنه "يقيم بالقرب من الأشياء"، وأنه يقطنها وأنها "موطنه"، فتتحول علائق البعد والغربة -بما تحملانه من حمولة نفسية، بل وجودية- إلى مجرد أبعاد هندسية. ألا تفعل الترجمة الفعل نفسه؟ أليست هي -في نهاية الأمر- انفتاحا على الآخر واستضافة له؟! أليست هي من يجعل الغريب ضيفا على الدار؟! أليست -كما كتب أحدهم- مأوى البعيد؟! أليست أداة لبناء المؤتلف الإنساني؟!