لا حاجة لحيطان السلام

زهرة السعيدية

في تجربة سيسيولوجية أُجريَت في العام 1998، على الشباب الأوروبي في 23 دولة أوروبية، تستقصي القيم التي يؤمن بها هؤلاء الشباب أكثر من غيرها من بين الحرية، والإيمان، والمال، والهوية، والسلام، اختار ما يقارب 83% منهم قيمة السلام في مقدمة القيم الأخرى. إذا كانت هذه القيمة قد حظيت بالأولوية عند الشباب الأوروبي، وأجزم أنها ستكون كذلك عند الأغلبية ما الذي يحدث في الواقع إذن ليجعلها معقدة وعصية على التطبيق.. كتب عبدالرحمن السالمي مقالَ "المؤتلف السياسي والسلام العالمي"، في مجلة "التفاهم"، محاولا فيه البحث في الأدبيات التي تناولت السلام والحرب.

ويقول الكاتب إنَّ السلام قيمة منسية؛ ففي حين أن المباحث قد نحتت لفظاً خاصاً لتوصيف حالة الحرب والعدوان، إلا أنه لا يوجد في المقابل مصطلح يصف حالة السلام أو أدبيات ومباحث تتحدث عن هذه الحالة، ولا أتفق مع الكاتب هنا، لكني سوف أؤجل نقدي لهذه الفكرة لما بعد الحديث بالتفصيل عن مباحث العنف والسلام.

 

وتعود الوثائق والأدبيات التي تتحدث عن فن الحرب إلى الحضارت القديمة في اليونان والصين. لم تناقش هذه الأدبيات بالطبع طرق استثارة الحروب، وإنما ضبط النفس أثناء المعارك، وخطط تقليل أكبر أعدد ممكن من الخسائر البشرية، إضافة إلى تحذيرات للأجيال القادمة من آثار الحروب ومآسيها. كل هذا التاريخ من الوثائق والأدبيات أو حتى تفاصيل الحروب التي حدثت دفعت المفكرين في أوروبا إلى الكتابة حول إستراتيجيات الحرب وتقليل الخسائر. أدى هذا النزوع الإنساني إلى تكوّن فكر قيمي فلسفي في العلاقات الدولية في الحرب والسلم، يتحدد هذا الفكر في ثلاثة تقاليد، أولها "التقليد الجماعي"، الذي بدأ مع فيلسوف القانون والسياسة هوغو غروتيوس، ويري "أن السياسة الدولية أمر يعود إلى جامعة دول يفترض فيها أن تكون على قدرٍ من التعقل". ثانياً "التقليد الواقعي" عند توماس هوبز الذي يعالج القضايا الإنسانية من منظور مادي. الإنسان عند هوبز كائن "مطبوع على الأنانية وحب الذات". كون تاريخه التطوري شكله على هذا النحو؛ تصبح أفعال الإنسان بحسب هوبز مدفوعة بمصالحه الشخصية، فحتى نزعته الاجتماعية غرضها الأساسي البقاء في أسوأ الأحوال والهيمنة في أفضلها، لذلك إن الحالة الطبيعية للإنسانية هو السلوك المتوحش، وليس المدنية والتحضر. يستند هوبز في نظريته هذه إلى استقرائه للتاريخ الدموي سواء كان بين الأفراد أو القبائل أو الدول، ويقول إن العقل هو الطريقة الوحيدة لكبح جماح هذه الغريزة وإنهاء فوضى صراع البشر.

ثالث تقاليد العلاقات الدولية هو ما تحدث عنه كانط: "التقليد الكوني"؛ يشبه تصور كانط حول السلام والعنف تصور هوبز؛ حيث لا يعتبر السلام الحالة الطبيعية للإنسان، وإنما حالة يجب إنشاؤها وجعلها دائمة من خلال إقامة مشروع سلمي كوني ودائم. بحسب كانط، لا يمكن أن يتحقق ذلك بالالتزام بالتقاليد الطوباوية، وإنما عن طريق نظام حقوقي يستند إلى "أساس تعاقد مدني يلزم الجميع".

 

السلام والعنف من منظور بيولوجي

لنتخيل تاريخ تطور البشر ينبسط أمامنا، يتقاتل فيه الأفراد والقبائل من أجل الوصول إلى الموارد المحدودة، ما هي السلوكيات التي سوف يطورها هذا النوع من أجل البقاء؟ يقول آرون غوتز إنه في تجربة محاكاة تطور البشر أجراها مجموعة باحثون سويسريون في 2007 صممت بوضع مجموعة أناس آليّين مبرمجين بثلاثين جيناً بشرياً عن طريق برمجيات تتحكم بالحواس، والإدراك والحركة، وضعت هذه المجموعة لتجول في حلبة مساحتها 9 أمتار بها طعام وسمّ موزع في الأرجاء، ثم اختاروا المجموعة التي كان آداؤها أفضل لتشارك في المراحل المتقدمة وهكذا... لن أتحدث عن التفاصيل الدقيقة للتجربة وطرق ضبطها هنا، لكن ما توصل إليه الباحثون هو أن بعضا من هذه المجموعة (في عدة أجيال خلال التجربة) قد تعاضدوا وطوروا إشارات بصرية لتنبيه الآخرين عند وصولهم للطعام، في حين أن البعض الآخر قد طور سلوكيات عدائية تبعد الآخرين عن مواقع الطعام وتقودهم إلى مواقع السّم، لكن حتى في المجموعة المتعاضدة لاحظ الباحثون أن البعض قد يلكز أو يدفع رفاقه عن الطعام. رغم أن هذه المحاكاة الرديئة للطبيعة قد لا تكون تأكيداً على ما حدث فعلاً في تاريخ التطور، إلا أنها توضح أن الانتقاء قد يصوغ سلوكيات وإستراتيجيات كانت قد نجحت في زمن وبيئة محددة حتى وإن كانت سلوكيات دنيئة. ليس هذا الأمر غريباً من منظور البيولوجيا، لأن الانتقاء الطبيعي يميل نحو تفضيل الجينات التي تبقى وتتكاثر بنجاح في بيئة معينة حتى ولو كانت مضادة للسلوكيات الاجتماعية.

وتتوافق هذه النظرة البيولوجية تقريباً مع المخلفات الأركيولوجية المصابة بكسور وجروح بفعل رؤوس الحِراب، وكذلك مع الوثائق التي وصلت إلينا حول العنف والصراعات بين المجتمعات البشرية أو حتى ما نراه أحيانا من صراع في الوقت الحالي، وإن كان بصورة أكثر تحضراً. يقول عالم البيولوجيا

 

قلت سابقاً إنني لا أتفق مع الكاتب حول أن السلام قيمة منسية، وأن الباحثين قد تجاهلوها بتركيزهم على توصيف العدوان؛ لأن كل هذه الدراسات والمباحث حول العنف والحرب والعدوان إنما هي محاولة لفهم هذه الغريزة الشاذة والمؤذية، ومحاولة إيجاد حلول لها لأجل إرساء السلام الدائم والكوني الذي دعا إليه كانط.

 

حائط السلام في أيرلندا

دامتْ الصراعات بين الكاثوليك الوطنيين البروتستانت الموالين للمملكة المتحدة في أيرلندا لعقود طويلة، وحدث في ستينيات القرن الماضي أن ثار الكاثوليك على التمييز ضدهم فيما يخص التوظيف والحقوق المالية وغيرها، ثم دارت صراعات عنيفة بين الطرفين وأخذوا في بناء متاريس بالسيارات القديمة والأنقاض لتحميهم من بعضهم البعض، مما أدى بالحكومة إلى بناء حيطان السلام  لتفصل بين المجتمعات الكاثوليكية والأخرى البروتستانتية، كان ذلك إجراء مؤقتاً أملاً في أن يهدأ الطرفان، لكن ما كان مخططاً له لم يحدث وبقيت الحيطان إلى اليوم. حتى مع معاهدة السلام التي حدثت في 1998 واتفاق زعماء الطرفين على الاستبدال بالصراع مفاوضات بين الطرفين، استمر سكان تلك المجتمعات المفصولة بالحيطان على حالهم، واستمرت الحيطان في الارتفاع. الجيد في الأمر هو أن الأجيال الشابة ومن بينهم إيان مغواكلين بدأوا شيئاً فشيئاً في محاولة إقناع السكان بهدم حيطان السلام، ويعلم هؤلاء الشبان أن رحلة الوصول إلى السلام عملية صعبة وطويلة إلا أنهم يعتمدون البطء والتروي في حل المشكلة، لا بالهدنة ولا بالتزام التقاليد الطوباوية بل بالسلام الذي قالت عنه حنا أرندت: "السلام الحَسَن الذي لا ينتج بالضرورة عن برنامج محدد وإنما غالباً عن مفاوضات وتنازلات".

أخبار ذات صلة