التنازع المعرفي التبادلي بين المعتزلة والأشاعرة

محمد الشحي

لعل البَحَثة المشغولين بمشكلات "الهوية"، لا سيما العربية، يقفون بإزاء البحثة المهتمين بدراسة التراث العربي الإسلامي، والوقوف على مدى تأثره بالواقع الاجتماعي والسياسي، في محاولةٍ لتقديم رؤية تفسيرية لسلوك النفس العربية الإسلامية، وتقديم نموذج تحليلي لإمكانات تلك النفس في مواجهة العالم الحديث الذي تخطى، كما يبدو لنا في سياساته الاجتماعية والقانونية، عقدة التراث، وأضحى متحررًا من القيود التي تضعها في رسغه مفهاهيم ظهرت استجابة لواقع سياسي واجتماعي مختلف. وها هو الباحث رضوان السيد يعود بنا في إعادة بعث الموضوعات البحثية التقليدية في الفكر الكلاسيكي العربي الإسلامي من خلال تقديم قراءاته المتسلسلة لأفكار الفِرَق الإسلامية القديمة. وفي مقالنا هذا، سنقدم قراءة لمقاله المعنون بـ"رؤى العدل والمسؤولية ورؤى العناية والرحمة عند المتكلمين المسلمين" المنشور في مجلة التفاهم.

يستهل رضوان السيد مقاله بوضع إشكالية مقاربته ضمن سياق إنتاجه المعرفي المنشور في مجلة التفاهم على مدى عشر سنوات من الكتابة والنشر، مُبرزًا مجال مقارباته تلك، وراسمًا خطوطًا عريضةً لها من حيث إنها تسلسلت ضمن "قراءة قضايا صفات الله -عز وجلّ- لدى المتكلمين المسلمين، والفضائل المتصلة بها بوصفها قيمًا تشكل المنظومة الأخلاقية في القرآن الكريم". ولعل الباعث الذي دفعه لذلك هو رؤيته أنها مداخل "تتفرع عنها اعتبارات سلوكية وسياسية وتنظيمة"، مقرًّا بأنه قد سُبق إلى البحث والمقاربة في هذا المجال من قبل عديدين، ذاكرًا منهم الشيخ محمد عبدالله دراز وإيزوتسو وعبدالرحمن بدوي.

ويعدد رضوان السيد ضمن المداخل التي يعدّها أصولًا تتفرع عنها السلوكيات والسياسات والتنظيمات: المساواة، والرحمة والإحسان، والعدل، والمعروف، والتعارف، والخير العام. يجعلنا التسليم بهذه المفاهيم، بوصفها أصولا، أمام فرضيةٍ يحق لنا أن نسائل الباحث عمّا القاعدة المعرفية التي أفرزت هذه المفاهيم، لكن الباحث هنا أغفل هذا الجانب في طرحه، فجعلنا نفترض أننا موعودون بتحليل شامل لتراث المتكلمين المسلمين لنصل إلى خلاصة تؤيد هذه الفرضية من عدمها، إلا أن الباحث تجاوز هذه النقطة في خضم تحليله لمحتوى التراث الكلامي ليغوص في تفاصيل أنستْه تلك الخطوة المنهجية أثناء كتابته للبحث/المقال.

ويورد رضوان السيد اعتراضين يعترضان على التفكير والبحث في المحتوى الكلامي الإسلامي من وجهتي نظر متباينتين. الاعتراض الأول من عند الأصوليين الإسلاميين أنفسهم؛ إذ إنهم يرون أن مجرد التفكير في هذا المجال تفكيرًا أخلاقيًّا منافٍ لطبيعة الدين والعقيدة والشريعة، فالدين قائم على مبدأ الاتباع والتسليم المطلق لكل ما يرد في المدونة الإسلامية من قرآنٍ كريمٍ وسنةٍ نبويةٍ بالمقام الأول. ولهذا الاعتراض وجاهة تدعمها عديد النصوص القرآنية والنبوية، وتؤكدها المدونات التفسيرية للقرآن والحديث، ويلقى قبولا واسعًا عند كثيرين.

وأما الاعتراض الثاني فنستطيع أن نقول بأنه اعتراض حداثي؛ على اعتبار أن القائلين به ممن يُعَدّون حداثيين في سيرورة الفكر العربي الإسلامي، ونقصد بهم أولئك المتأخرين والمعاصرين من المستشرقين والعرب. وخلاصة الاعتراض أن منشأ علم الكلام سياسي بحت، وأنه ذو طبيعة سياسية غلّابة. والقائلون بهذا الاعتراض لا يعدونالنظريات التي قدمها المعتزلة وغيرهم في مسائل تنزيه الذات الإلهية – لا يرون في ذلك سوى مسألة تمهيدية للمسألة المحورية -وإن تخفّت- التي يبشّرون بها: الحرية الإنسانية، في مواجهةٍ مباشرة لعقيدة الجبر التي تبنى خطابَها الأمويون. ولهذا الاعتراض وجاهة كذلك؛ على اعتبار أنه لا ينتزع المعرفة من البيئة الاجتماعية والسياسية التي ظهرت فيها.

ويدّعي رضوان السيد أن تأثر مسائل القدر إثباتا ونفيا والكبائر وعلاقتها بالإيمان - كان تأثر هذه المسائل بالسياسة تأثرًا تابعًا فحسب، ولم يكن فرزًا مباشرًا للصراع السياسي الحاصل. وأن مسألتَيْ الإيمان والقدر قرآنيتان سابقتان في وجودهما على الصراع الذي حدث لاحقًا، مستدلا على ذلك بدليل أن علم الكلام لم ينتهِ في القرن الثاني الهجري عندما انفصلت قضاياه بوضوح عن المسائل السياسية، بل استمر حتى اليوم، على حد قوله.

إلا أننا نعقّب على ذلك بقولنا: صحيح أن مسألتي الإيمان والقدر قرآنيتان، من حيث إنهما وردتا في النص القرآني وعالجهما في تمثلاتهما بين المؤمنين والكفار، لكن كلا الفريقين يسلمان بذلك، ويبقى الاختلاف في تفسير كل فريق منهما لتلك المفهومات التي وردت في النص القرآني، وهذا هو المفصل الذي يفصل بين المذاهب/المدارس الإسلامية، فمجرد الأسبقية الوجودية لتلك المفاهيم لا يعني أسبقية معالجتها (تفسيرها) عند المسلمين، ولا يخفى أن المعالجات المتباينة لتلك المفهومات هي التي تقود لا النصوص نفسها.

وأما دليله ببقاء علم الكلام الإسلامي حتى اليوم، فماذا يعني هذا البقاء، وهل هو بقاء حيوي فاعل، بمعنى أن المعرفة المتولدة من علم الكلام متراكمة متطورة وفاعلة في الحقل المعرفي؟ أم أن كل ما يُنتج في هذا المجال هو مجرد اجترار لصراعات معرفية سابقة، ربما تُعاد صياغة بعض مفرداتها مراعاة للواقع المعرفي الحديث؛ لذلك نجد أننا نتفق مع ابن خلدون والغزالي بانعدام الجدوى، لكنه انعدام معرفة وليس انعدام الأمان العقيدي -إن جاز لنا التعبير-.

طرح رضوان السيد في مقاله مقابلة بين المعتزلة والأشاعرة، على ما بينهما من بَون شاسع في الرؤية للذات الإلهية، والتعاطي مع النصوص القرآنية تفسيرًا وشرعًا. فيثبت أن الأشاعرة متكلمون كالمعتزلة تمامًا، فهم يستخدمون مفردات المنطق والكلام لعقلنة النقل، ولو كان على حساب العقل. وهذا ما لا شك فيه، بدليل هجوم الأصوليين على كليهما وعدّهما وجهين لعملة واحدة: البدعة.

يلفت النظر ذلك التساؤل الإنكاري الذي طرحه رضوان السيد قائلًا: "ولست أدري لماذا يجب أن تكون للرأي السياسي دائمًا صلة بالاعتقاد الديني؟!"، مدللا على ذلك بسيرة واصل بن عطاء، مؤسس المذهب الاعتزالي، التي تخلو من ذكر أي توجه سياسي له. إلا أننا نقف لنسائل الباحث نفسه: ولماذا لا يكون الرأي السياسي هو من يحشر أنفه دائمًا في الحقل الديني؟ خاصة أن هناك العديد من الأخبار التي وردت في كتب التاريخ الإسلامي مؤرخةً وملَّلَةً على صحة الزواج العرفي فيما بين السياسة والدين؛ من أمثال قتل أحد أعلام المعارضة من قبل الأمويين ورمي رأسه لأتباعه قائلين: "قتلناه بأمر الله السابق"، وفي هذا تصريح لا يدع مجالا للشك بتوظيف الديني لما هو سياسي.

ختامًا، يقرر رضوان السيد بأن كلا من المعتزلة والأشاعرة كلاميون، يتوسلون العقل والمنطق في إثبات رؤاهم الدينية، غيرَ غافلٍ عن حقيقة أن لهما غايات رؤيوية في تصورهم لله -عز وجل- وليست المحورية فيه للإنسان.

أخبار ذات صلة