زهرة السعيدية
يستعرض محمد الشيخ في مقاله (بول كيندي: في قيام الإمبراطوريات وانهيارها) كتاب بول كيندي ”صعود وسقوط القوى العظمى“، ويناقش النظريات المختلفة حول أفول الإمبراطوريات التاريخية ثم يحاول في النهاية الإجابة عن التساؤلات حول أفول الإمبراطورية الأمريكية.
يحدث دائما أن تكون جالساً بين مجموعة من الأصدقاء فيسأل أحدهم: كيف تتوقعون أن تكون نهاية الحضارة الأميركية، فيجيب آخر: إن الدَّين الأميركي العام سينهك اقتصادها، ويجيب آخر: إن الصين تشكل خطراً على قيمة الدولار الأميركي بامتلاكها ما يقارب ٣ ترليون من احتياطي الدولار فإذا أطلقته في السوق ستنهار قيمته، وآخر يجيب: إنها على أعتاب أزمة مالية لأنها تطبع كمية هائلة من الدولارات الغير مستندة على احتياطي الذهب، ويقول آخر: إن صعود اليمين المتطرف إلى السلطة هو ما سينهي أميركا، وقد يدعي آخر أن أميركا ليست بحضارة على الإطلاق. توجد العديد من الفرضيات لكن الأكيد أن الأمر عسير على الاستقراء بسبب استحالة التنبؤ بالأحداث وبسبب استحالة وضع نظرية عامة حول الإمبراطوريات وأفولها.
يقول الكاتب إن تحديد نظرية عامة لتفسير أصول وفصول الإمبراطوريات أمر غاية في الصعوبة لأن الإمبراطوريات التي ظهرت على مدى التاريخ كانت شديدة التنوع في المكان والزمان والنظام والمشروعية(الدين، الدفاع عن المنطقة، نشر حقوق الإنسان … إلخ)، حتى الأفول في الإمبراطوريات المختلفة لا يشبه بعضه، فمنها ما اختفى بسبب التفكك الداخلي والصراع على الحكم كما حدث في الإمبراطورية المنغولية، ومنها ما اختفى بسبب الحروب الخارجية، وأخرى بسبب ”طول شيخوختها“، وأسباب أخرى تنحصر دائماً في المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية. العامل المشترك الوحيد بين جميع الإمبراطوريات هي أنها ظهرت وأفلت، لذلك لا يمكننا استقراء إجابة محددة على أسئلة من قبيل”هل الإمبراطورية الأميركية غادية إلى أفول؟“، أو”ما الذي سيعجّل من أفولها“، أو ”هل تعد أميركا بالأساس إمبراطورية؟“، كل ما نستطيع فعله هو استعراض بعض الفرضيات الذي طرحها المنظرون.
هناك العديد من الفرضيات والكتابات حول تاريخ الإمبراطوريات الآفلة وقدر الإمبراطوريات المعاصرة. أعتقد أن الكاتب ركز في بحثه على كتاب المفكر بول كيندي ”صعود وسقوط القوى العظمى“، لأن هذا الكتاب أحدث ضجة في نهاية الثمانينيات وأثار حفيظة اليمين الأمريكي بسبب أفكاره المثيرة للجدل.
يبدأ بول كيندي كتابه بشكل عادي مناقشاً أحوال القوى العظمى بدءاً من عام ١٥٠٠ في الشرق والغرب، ويرجح كفة الشرق في تلك الحقبة لأسباب معرفية وديموغرافية، ثم يناقش صعود بعض دول أوروبا في مواضع القوة لأسباب اقتصادية وجغرافية. يناقش في الفصول اللاحقة آثار الثورة الصناعية والتطور التقني على توازن القوى، ويعرج بعدها إلى الحديث عن تقلص عدد القوى في العالم ونشوء عالم ”ثنائي القطب“ والحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي. و استقصى في نهاية الكتاب أحوال العالم المعاصر الذي كان نتاج الحرب العالمية الثانية، وختم الكتاب بقوله أن الولايات المتحدة الأميركية ليست بمأمن من المصير الحتمي للإمبراطوريات التي محيت عن وجه الأرض، حتى وإن كانت تمتلك القوة الاقتصادية والعسكرية الضرورية.
وأود أن أقف هنا على مغالطة الكاتب في اعتبار اليابان قوة منفصلة عندما قال إن ”كفة القطبين [الأمريكي والروسي] لمتآكلة هاوية، وكفة الصين واليابان لمتقدمة راجحة“. حيث لا يمكن أبداً اعتبار اليابان قوة مستقلة في الوقت الحالي لأنها تابعة تماماً للولايات المتحدة منذ أن ضخت هذه الأخيرة أموال هائلة في اليابان لمساعدتهم في النهوض باقتصادها (كما فعلت في ألمانيا) بعد الحرب العالمية الثانية. أضف إلى ذلك أن اليابان لا تملك قوة عسكرية مستقلة حيث أنها مازالت قاعدة عسكرية للولايات المتحدة الأمريكية وواقعة تحت حمايتها. وهنا يناقض الكاتب ما كتبه حول شروط تحقق القوى العالمية؛ القوة الاقتصادية والعسكرية. وإذا ما أردنا تحديد القوى العالمية في الوقت الحالي فستكون: الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والهند نوعاً ما، أولا لأن هذه الدول تمتلك القوة العسكرية والاقتصادية، وثانياً لأن غيابها عن الساحة سيشكل ضربة مدوية للعالم بأسره.
نأتي الآن لسؤال ”هل تعد الولايات المتحدة حقاً إمبراطورية“. تخيل أن إنسانا يعيش في بلد يبعد آلاف الأميال عن الولايات المتحدة، يستيقظ صباحاً ويأخذ هاتفه الآيفون ويقود سيارته إلى مقهى ستاربكس، مستخدماً تقنية الجي بي أس لتحديد الاتجاهات، ثم يطلب قهوة سوداء ويدفع عن طريق الفيزا أو الماستر كارد، ثم يجلس في أحد زوايا المقهى، ويخرج جهازه المحمول من نوع آبل ويتصل بشبكة الوايفاي، ويبدأ بالتحقق من بريده الوارد على غوغل، ثم يطّلع على آخر الأخبار عبر تويتر وينشر تغريدة ينادي فيها بالحرية والديموقراطية، ثم يتواصل مع أصدقائه عبر الفيسبوك. يطلق البعض على ما يحدث بالإمبريالية الثقافية (أو الإمبريالية الجديدة) ويعتبرها آخرون إمبراطورية فريدة من نوعها لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل.
ويقول الكاتب إن العديد من الأدبيات قد تحدث عن هذه المسألة وانقسم المنظرون فيها إلى اتجاهين: الاتجاه الأول هم ”النفاة“ وهم الذين نفوا كون الولايات المتحدة الأميركية امبراطورية، أبرزهم عالم الاجتماع مايكل مان حيث يقول إنها تفتقد للموارد الاقتصادية والأخلاقية والسياسية والعسكرية والأيديولوجية التي يمكن أن ”تؤسس لهذا الادعاء الإمبراطوري“، ولأنها تفتقر لشرطين وهما: ”إطلاق قوى التدمير“ و”إعادة إنشاء العالم من جديد وقد قدّ على صورتها“، ويتفق مع كون أميركا مجرد إمبريالية جديدة.
أما الاتجاه الثاني فهم يؤكدون إيجاباً على كون الولايات المتحدة إمبراطورية. أبرزهم نيال فرجسون، المنادي بالهيمنة، والذي شط كثيراً بقوله إن الولايات المتحدة هي أقوى امبراطورية شهدها التاريخ، وعليها أن ”تغزو العالم بالعولمة الاقتصادية“، وأن تبادر بالهجوم على الطغاة. ولكن هناك من عاب عليه وعلى مفكري الهيمنة الآخرين عجزهم عن رؤية ما هو أبعد من أرنبة أنوفهم ومصالح بلدهم الأنانية على حساب استقرار البلدان الأخرى.
وبالنسبة لأفول الحضارة الأميركية، ذكر الكاتب عدة نظريات، أميل شخصياً إلى النظرية التي أرى أنها الأكثر عقلانية، وهي لجوزيف ناي، حيث يقول إن نهاية الهيمنة الأميركية لا تعني بالضرورة ”الأفول الفج“ أو السقوط المدوي، وإنما الذي سيحدث هو سقوط مبدأ الهيمنة، أي ستبقى أميركا دولة لها تأثيرها، لكنها ببساطة ”لن تصبح عظيمة كما كانت“.
