السرديات والنقد السردي

وليد العبري

السرديات هي علم السَّرد الذي يهتم بوصف البنيات التكوينية للسرد وتحديد منطق عملها، يلخص جيرالد برانس أهدافها في استكشاف ووصف وتفسير آليات السرد، والعناصر المُتحكمة في شكله واشتغاله. من منظور تاريخي تأسست السرديات كاختصاص مستقل بذاته أواخر الستينات من القرن العشرين في فرنسا، حين اقترح تودوروف مصطلح السرديات في كتابه "نحو الديكامرون"، وهي الفترة التي تميزت بالتأسيس الإبستمولوجي والعلمي لحقل السرديات، حيث وضعت الأُسس النظرية لهذا العلم الأدبي على يد رواده المؤسسين، خاصة تودوروف وجيرار جينيه ورولان بارت.

وأرسيت قواعده وأجهزته المفهومية والاصطلاحية، التي اكتسبت صبغة كلية وعالمية. وهذا ما ناقشه الدكتور محمد بوعزة في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم". وأوضح أنَّه في الثمانينيات من القرن العشرين أصبحت السرديات أهم نظرية في الدراسات الأدبية والثقافية، مُؤسسة ما سيُعرف لاحقاً بالمنعطف السردي في حقل العلوم الإنسانية.

غير أنَّ النظر إلى تكون السرديات من منظور تاريخي يكشف أن هذا العلم لم يكن وليد طفرة عرضية في سياق تاريخ النظرية الأدبية، بل تشكل وتطور في مجرى صيرورة تاريخية دينامية، تعددت فيها مساراته التاريخية وتنوعت روافده النظرية، حيث يُمكن القول بأنَّ فترة التأسيس البنيوي في فرنسا كانت تتويجاً للجهود النظرية التي سبقتها، لاسيما في روسيا مع الشكلانيين الروس، ومع النقد الأنجلو أمريكي خلال فترة الأربعينيات من القرن العشرين.

بناءً على هذا المعطى التاريخي يمكن أن نميز في صيرورة تكون السرديات بين ثلاث لحظات دالة: لحظة الأصول والجذور، ولحظة التأسيس، ثم لحظة التوسع والتطور. وهو التاريخ الذي نجده معتمدًا لدى المنظرين الذي اهتموا بالبحث عن جينيالوجيا السرديات.

لفهم دلالة هذه التحولات المفصلية في حقل السرديات سنعمل في هذه الدراسة على رصد صيرورة تكونها، ومن منظور تاريخي إبستمولوجي، يهدف إلى توضيح جدلية التأسيس والتحول في النماذج النظرية التي طورتها السرديات. وهذا ما سيتيح لنا تحديد سلسلة الإبدالات المعرفية التي شكلت مسارات انعطاف فارقة في صيرورة تطور العلم، وانتشاره خارج حدوده العلمية والجغرافية.

بعيداً عن أي منحنى خطي يذهب ديفيد هرمان في بحثه الجينيالوجي، إلى أنَّ السرديات تطورت من تفاعل ابستمولوجي تاريخي مركب بين تقاليد فكرية مُتعددة، نشأت في فضاءات جُغرافية وثقافية مختلفة: من حركات نظرية ونقدية، ونماذج تحليلية ومدارس فكرية، موزعة على امتداد عقود زمنية، وبين قارات وأمم مُختلفة.

ما نستخلصه إذا، أنَّ هناك تنوعا كبيرا في الجذور التي شكلت مرحلة الأصول في مسار تشكل السرديات وتطورها. لم تكن هذه الروافد مُنفصلة عن بعضها البعض؛ لأنها خضعت لصيرورة من التفاعل المتبادل وانتقال الأفكار، وعرفت "مسارات تطورية متوازية بمعدلات مُتزامنة للتغيّر". وهذا ما يُؤكد فرضية ديفيد هرمان، التي تقول بوجود تواريخ مُتعددة للسرديات وليس تاريخا واحدا، وإن ما يجمع بين هذه الروافد المتنوعة ثقافياً وجغرافياً هو نسبها المشترك المتحدر من تقليد فكري مورفولوجي واسع، كان رائدا في تدشين تصور منهجي يهتم بالسرد من زاوية الشكل والتركيب السردي، وسيشكل من ثم مرجعاً أساسياً لكل منظري السرديات لاحقاً.

يرفض ديفيد هرمان التصور التاريخي الذي يعدُّ السرديات نتاج تطور حتمي لإرث نظري واحد هو الشكلانية الروسية. وفي المُقابل هذه النظرة الحتمية – التي تسلم بتاريخ واحد للسرديات – يرى أن ثمَّة تواريخ مُختلفة للسرديات، حيث يكشف بالحفر الجينيالوجي في تاريخ السرديات أنَّ مرحلة الجذور التي مهدت لتأسيس السرديات تفاعلت فيها تقاليد فكرية مُتنوعة، وأصول نظرية مختلفة، تطورت في فضاءات جغرافية مُتعددة، وصيرورات زمنية تحكمت فيها "مُوجّهات التغيّر المتقاطعة والعابرة للحدود".

تغفلُ أغلب الدراسات التي تناولت الجهود النظرية السابقة التي مهدت لظهور السرديات – سواء في السياق العربي أو السياق الغربي – التراث النظري الألماني، وتربط أصول السرديات بصورة حتمية بالإرث الشكلاني الروسي. من هنا تأتي أهمية الكشف عن هذا الرافد؛ لأنه من جهة أولى يبرز دور التراث النظري الألماني من ميدان شعرية السرد منذ وقت مُبكر، سابق على الشكلانية الروسية؛ ومن جهة ثانية يكشف استفادة الشكلانية الروسية وتفاعلها الخلاق مع هذا الرافد؛ إذ عمل الشكلانيون على تطوير مقاربته المورفولوجية باتجاه بناء نماذج نسقية للسرد.

بالتوازي مع هذا الخط الألماني في شعرية السرد قام الشكلانيون الروس بتطوير فكرة "التركيب السردي". ولعل ما يُؤكد هذا التفاعل المعرفي بين الشعرية الموروفولوجية الألمانية والشكلانية الروسية – بحسب هرمان – أن أبحاث المنظرين الألمان كانت معروفة بشكل جيِّد في هذا الوقت في روسيا سنة 1920م.

بفضل هذا التلاقح المعرفي ستعرف دراسة السرد مع الشكلانيين الروس تطورات مُهمة، وسيمثل هذا الإرث أحد الروافد الأساسية في تأسيس السرديات في مرحلتها البنيوية. في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى الأهمية التأسيسية لكتاب "مورفولوجية الخرافة" للشكلاني الروسي فلاديمير بروب، الذي شكل نموذجاً مُلهمًا للسيميائي الفرنسي غريماس في بناء نظريته السردية السيميائية.

أما عن التقليد الأنجلو فيقصد به إسهامات النقد الإنجليزية والأمريكية في مجال شعرية السرد، التي يسميها ديفيد هرمان بالشكلانية الأنجلو – أمريكية؛ لأن هذا التقليد الأدبي والنقدي كان واعيا بأهمية الشكل في بناء جمالية وفنية الرواية. بهذا التوجه الفني يلتقي مع الأفق الأدبي والنسقي للشكلانية الروسية، ولذلك سيمثل هذا القليد فرعا مهما في جينيالوجيا النظرية السردية الحديثة؛ لأن أثره المنتج سيتمخض عنه صياغة مفهوم أساسي في نظرية السرد هو "وجهة النظر"، الذي سيكون ملهما في نقاشات جيرار جينيت حول تميزه بين مستويين للسارد: الصوت السردي والرؤية السردية.

ظهر هذا التقليد النقدي في الفترة نفسها التي ازدهرت فيها الشكلانية الروسية؛ ويمتد إلى إرث نظرية الرواية الذي بدأ مع مقدمات الروائي الإنجليزي هنري جيمس لأعماله الروائية. وطوره بيرسيل وبوك، وعمل واين بوث لاحقا على إعادة صياغته نظريا. وقد تميز النقد الأنجلو – أمريكي بنزعة عضوية تتعامل مع الأعمال السردية على أنها كليات عضوية، وهو بذلك كان متطابقا مع نظريات المورفولوجية السردية في كل من ألمانيا وروسيا.

من خلال عرضنا بتركيز على أهم التطورات الحديثة في حقل السرديات والنظرية السردية، تظهر لنا أهمية التحولات التي طرأت على حقل السرديات؛ لقد أسهمت هذه التطورات في توسيع حقل السرديات، في منهجه ومدونة موضوعاته. ومن جهة ثانية كشفت الطبيعة الثقافية للسرد التي تجعل منه خاصية ملازمة للوجود الإنساني، فيما ينتجه من خطابات ثقافية، وفي ممارساته الثقافية الدالة.

ومن الناحية الابستمولوجية تبرز هذه التطورات الحديثة ثلاث خصائص منتجة اتسمت بها السرديات في صيرورة تطورها، هي: الانفتاح والدينامية والامتداد خارج حدود حقلها.

صحيح أن هذه التوسعات في حقل السرديات لم تخل من توترات إبستمولوجية، تتصل بإشكالية انتقال المفاهيم وحركية انتقال الأفكار بين السرديات وحقول المعرفة الأخرى، لكننا يمكن أن نقول بأنَّ هذه الدينامية كانت محكومة بنمط التبادل المنتج بينها وبين التخصصات الأخرى.

إذا كانت حقول المعرفة الإنسانية استفادت من مفاهيم التحليل السردي في تطوير مقاربتها لموضوعاتها؛ فإن السرديات استفادت من الاستخدامات المتعددة لمفاهيمها في هذه الحقول، خاصة حين تم تطبيقها على مدونات سردية جديدة، ظلت مستبعدة من مجال بحث السرديات، مثل السرد اليومي، وقصص الحياة اليومية، وحكايات الناس العاديين. وهذا ما ترتب عنه تحطيم التمييز التراتبي بين السرد الأدبي والسرد اليومي، وبين سرود الثقافة الرفيعة وسرود الثقافة الدنيا أو الشعبية.

وصار الخط الفاصل الذي كان يبدو شديد الوضوح بين عالم القصص الخيالية ضبابيا؛ فقد التميز بمجرد التحرر من الازدواجية والثنائيات، رغم أنَّ أية قصة تصنف على أنها طبيعية أو أدبية، شفهية أو مكتوبة، بسيطة أو معقدة، إلا أنَّ هذه التصنيفات ليست ثنائيات متناقضة، ليست سوى أطراف لاحتمالات بلا نهاية.

 

أخبار ذات صلة