زهرة السعيدية
للدين دور تاريخي في ثورات الشعوب ومُحاربتها لظلم السلطات والاستعمار والاحتلال، وقد يكون أبرز مثال على ذلك اللاهوت الأسود الذي نشأ في كنائس الأمريكيين الأفارقة في ستينيات القرن الماضي إبان نضالهم ضد الفصل العنصري والاستعباد بكل أنواعه ومطالبتهم بحقوقهم المدنية، إلا أنَّ هناك تجربة أخرى أكثر نضجاً وربما أكثر إثارة للاهتمام تحدث عنها عز الدين عناية وقارنها مع تجربة الإسلام السياسي في مقاله "مسارات الدين بين أمريكا اللاتينية والبلاد العربية".
يبدو واضحاً من العنوان أن التجربة التي وصفتها بالمثيرة للاهتمام هي تجربة المسيحية في أمريكا اللاتينية. يطلق على الظاهرة التي حدثت هناك بلاهوت التحرر، لكن قبل الحديث بالتفصيل عن هذا اللاهوت والفضاءات التي اشتغل فيها لابد من الحديث قليلاً عن الإشكالات الدينية والسياسية والاجتماعية التي أدت إلى تكون هذه الظاهرة.
كانت الحرية الدينية في أمريكا اللاتينية أثناء حقبة الاستعمار الأسباني والبرتغالي أسيرة أصحاب النفوذ الكاثوليك ورجال الدين الذين كانو يتقلدون معظم المهام الحكومية، واستمرت كنيسة الكاثوليك بالهيمنة على تلك المنطقة حتى بعد الاستعمار لما كانت عليه دول تلك المنطقة من هشاشة وتهالك جراء السنوات العصيبة التي مرت عليها. حاولت الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع القرن العشرين تقليص هيمنة الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا الجنوبية ومنها بدأت الكنائس البروتستانتية (التي قال عنها ماكس فايبر إنها سند للرأسمالية والليبرالية) بالدخول على الخط في منافسة ضد الكاثوليك في تلك المنطقة.
ما يميز البروتستانتية عن الكاثوليكية هو اهتمامها وجاهزيتها للمشاركة في العملية الديمقراطية، هذا بإلإضافة إلى كونها عاملا أساسيا للتطور، وقدرتها على ضمان نظام سياسي واقتصادي أكثر استقراراً. بهذا وجدت البروتستانتية مكاناً لها بين شعوب أمريكا اللاتينية الذين خرجوا توّاً من الاستعمار متعطشين لحياة اجتماعية واقتصادية أفضل بعد أن شعروا أن الكاثوليكية بعيدة عن همومهم وقضاياهم.
سوف يبدأ المشهد السياسي والديني في تلك المنطقة بالتغير بعد الأحداث المؤثرة في فترة الستينيات من القرن الماضي، حيث صعد الحزب الديمقراطي المسيحي إلى الحكم في تشيلي بعد فوزه في انتخابات 1964، وحدث انقلاب عسكري في البرازيل مطيحاً بالحكومة الشعبية، ثم تبدأ بعدها سلسلة من الانقلابات والثورات العنيفة التي بثت حمّى التحرر التي أصابت الجميع بما فيهم رجال الدين. تمَّ في تلك الأثناء عقد مؤتمر أساقفة أمريكا اللاتينية في كولومبيا وخرجوا بلاهوت جديد مُرتبط بالحياة الاجتماعية والسياسية ومهتم بقضايا المهمشين، وقد سمي لاحقاً بلاهوت التحرر. لم يكن رواد التحرر يتطلعون إلى "إحداث شرخ في الكنيسة" وإنما أرادوا استحداث ممارسات دينية قريبة من مشاكل المستضعفين.
ما جعلني أقول أن هذه التجربة مثيرة للاهتمام هو ما حدث من تحالف استراتيجي بين الزعيم الاشتراكي فيديل كاسترو والمسيحيين الثوريين على الرغم من الاختلافات العميقة بين الاتجاهين فأحدهما يخشى من الإلحاد ومعاداة الدين، والآخر يخشى على الثوار من تصلب الكنيسة، إلا أنَّ كاسترو سعى سعياً حثيثاً إلى حل هذا الإشكال وتجسير الهوة بين الطرفين من خلال جعل المسيحين حلفاء للماركسيين في ثورة التحرر في مقابل أن يقبل هؤلاء "بمنهج التحليل الماركسي" دون مطالبتهم بالتشكيك في معتقداتهم.
هذا كان في أمريكا اللاتينية، لكن ماذا عن الوطن العربي، وما الذي جعل الكاتب يقارب مسارات الدين في البلاد العربية بمسارات الدين في تلك المنطقة؟ إن أهم سمة مشتركة بين التجربتين هو خروجهما من الاستعمار وتعطش شعوبها للتحرر، لم تكن التجربة العربية بالطبع على قدر النضج الذي كانت عليه التجربة اللاتينية لأسباب ستتضح لاحقاً. لنعرج أولاً على الأحداث التي ولّدت الإشكال الديني في البلاد العربية. بدأت الطروحات النهضوية الدينية بالظهور مع رواد الإصلاح مثل محمد بن عبد الوهاب ومحمد علي السنوسي وغيرهما، أما الشكل الثوري والنضالي للإصلاح فقد تجلى في مناهضة الأمير عبد القادر الجزائري الشرسة للاحتلال الفرنسي في الجزائر. كان المحرك الأساسي للحركات الإصلاحية التحريرية الإسلامية هو هم التردي الحضاري الذي انجرف إليه العالم الإسلامي أيام الاستعمار. ما حدث في أمريكا اللاتينية من تفجر في الأطروحات الدينية السياسية في ستينيات القرن الماضي حدث بالضبط في البلاد العربية، حيث بدأ التيار المحافظ بنشر أفكاره من جهة والتيار الاشتراكي والليبرالي من جهة أخرى، فتفجرت الخلافات وتوسعت الهوة بين التوجهين مع مرور الوقت. ظهر في المشهد حينها الإسلام الاحتجاجي واشتدت الخلافات مع القوى الحاكمة مما أودى بالمحتجين والمعارضين إلى السجون وأحياناً الإعدام الذي كان أحد ضحاياه سيد قطب المُعارض لحكم جمال عبد الناصر. كانت مشكلة النخب الدينية في تلك الفترة، التي كانت القومية والدولة الوطنية حينها في أوجها، أنها تقليدية يعوزها "الطرح الحداثي" في زمن كانت فيه الحداثة تتفجر في الغرب، مما كلفهم الشرائح الشبابية التي نفرت من خطاباتهم التقليدية. للأسف لم يحدث في التجربة العربية ما حدث في أمريكا اللاتينية، فالتحرر الذي كان اللاتينيون يناضلون من أجله، أي التحرر الاجتماعي والإنساني، لم يظهر على أرض الواقع رغم ذكره في أدبيات المفكرين الإسلامين (سيد قطب في كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام، ومصطفى السباعي في كتاب اشتراكية الإسلام). لم تكن مطالب التحرر والعدالة الاجتماعية والاقتصادية أمراً ملحاً وأساسياً في الإسلام السياسي، وإنما كانت شيئاً ثانوياً في مقابل الهوس الطاغي بتطبيق الشريعة وأسلمة الدولة. فقد الإسلاميون بإهمالهم للعدالة الاقتصادية هنا مُجدداً شريحة أخرى تعتبر من أهم محركات المعارضة وهي شريحة العمّال. رغم ظهور اليسار السياسي لاحقاً في أواخر سبعينيات القرن الماضي وتفطن رواده إلى مشكلات الخطاب الديني، إلا أنَّ التحرر الذي كان أساس التجربة الدينية لأمريكا اللاتينية لم يكن له حضور مؤثر في التجربة العربية.
لم يكن موقف الحركات الإسلامية واضحاً من العملية الديمقراطية، فتارة ترفضها وتارة تقبلها على مضض، ربما لأنَّ هذه الحركات ظهرت أصلاً في زمن وبيئة لم تكن فيهما العملية السياسية ناضجة، فلا عجب إذاً من ضبابية الديمقراطية وغياب الرؤية الواضحة للتعددية في بقعة تفتقد لتلك المكونات. تقول لاورا غوتزوني إنه لا بدّ من النظر إلى "السياق العام للبلدان الإسلامية" في عملية انسجام الإسلام السياسي مع الديموقراطية، لأن هذه المعضلة ليست مشكلة الإسلام السياسي وحده وإنما متصلة بكل مكونات السياق العربي من "قوى ناشطة ونظم حاكمة". هل يمكن إذن أن تنضج التعددية والديمقراطية في العالم العربي؟ لا أرى شخصياً أنَّ ذلك مستحيلاً، فقد أثبتت تجربة تحالف المتدينين مع الماركسيين في أمريكا اللاتينية أن كل شيء ممكن أن يحدث إذا كان المنهج سليماً والهدف واحداً.
