الفضاءات الإلكترونية.. والأخلاقيات الرقمية

وليد العبري

نستخدم مفهوم الفضاءات الإلكترونية -في سياق هذا المقال- للإشارة إلى كل المنصات الاتصالية المرتبطة بالبث الإعلامي، عبر القنوات الفضائية، ومواقع الإنترنت، ووسائط التواصل الاجتماعي، والتي تعتمد اعتمادا كليا على استخدام تكنولوجيا الاتصال المتقدمة؛ بما تتيحه من تنوع في الوسائط، وسرعة نقل المعلومات وتداولها. كما تستخدم مفهوم الخطابات الإلكترونية للإشارة إلى كل ما يُبث عبر الفضاءات الإلكترونية؛ من أخبار وأحاديث وآراء شخصية، وتعليقات، ومعلومات، ودراما، وألعاب إلكترونية، وهي خطابات يتداخل بعضها مع بعضها الآخر، لتنتج خطابا يشترك في أنه يقوم على التواصل عن بُعد، عبر منصات خطابية واتصالية.

وهذا ما ناقشه الباحث أحمد زيد في مقاله -المنشور بمجلة "التفاهم"- وأضاف أنه قد قدّمت هذه الفضاءات للبشرية وسائل لم تكن تمتلكها من قبل لنقل الأفكار والأخبار وتداولها، وتخزين المعلومات واسترجاعها، وقد أنجزت بذلك نقلة نوعية في حياة الإنسان المعاصر، عبر صور التفاعل الجديدة التي ترتّبت عليها، وعبر الاستخدامات المختلفة، التي جعلت الحياة أكثر سهولة ويسرا.

وفي المقابل، فإنَّ هذه الفضاءات قد طرحت العديد من المشكلات والتحديات التي ترتبط بأساليب التفاعل عبر وسائطها، وبالقيم الحاكمة لتداول المعلومات فيها. ويُمكن القول بسهولة: إنه على قدر الفوائد التي جنتها الإنسانية من تطور تكنولوجيا المعلومات، وما قدمته من أشكال جديدة من الاتصال والتعامل مع البيانات والمعلومات: كانت المشكلات التي طرحتها استخدامات هذه الفضاءات، وتكاثر المعضلات الأخلاقية الكامنة فيها، وما يترتب على ذلك من آثار ضارة على النفس البشرية، وعلى العقل البشري، وعلى السلوك البشري كذلك.

لقد أدَّت الفضاءات الإلكترونية إلى توفير مجال عام جديد، له خصائص مختلفة عن المجال العام الواقعي؛ إن عالم الفضاءات الإلكترونية تحول إلى عالم مستقل بنفسه، يطلق عليه العالم الافتراضي أو العالم الشبكي أو العالم السيبر، وتحول هذا العالم، إلى ميدان للتفاعل العام الذي يحدُث بين أطراف من كل أنحاء العالم. ولقد تكاثرت الدراسات حول طبيعة هذا المجال الجديد، وحول طبيعة الجماعات والشبكات المتشكلة داخله؛ من حيث تكوينها، وطبيعة التفاعلات الصادرة عنها، والحراك الذي تنتجه أمام مستخدميها.

وتتسع هذه الفضاءات يوما بعد يوم، ويكفي فقط أن نشير إلى تزايد نسبة المشتركين في الإنترنت عبر العالم بعامة، وفي العالم العربي خاصة؛ لكي ندرك حجم التغيير والاتساع في استخدام الفضاءات الإلكترونية. ولقد ارتفع عدد مستخدمي الأنترنت من حوالي بليون مستخدم عام 2005 إلى 3.9 بليون عام 20018، وتؤشر هذه الأرقام إلى أن اتساع نطاق الفضاءات الإلكترونية يُعد ظاهرة عالمية، وأنه يقترن بالتطورات الهائلة في تكنولوجيا الاتصال، وفي البرامج الذكية التي تستخدمها.

وأصبح الإنترنت الوسيلة الأقوى والأكبر استخداما للتعبير عن الرأي، وممارسة الإنسان لحقوقه وحرياته؛ نظرا لعالمية تلك الشبكة وإلى مركزيتها وبُعدها عن سيطرة الحكومات والدولة. وبذلك أصبح الإنترنت الوسيلة أو الواسطة أو النافذة الإعلامية الأكثر حرية وانتشارا وذيوعا وتفاعلية. ولقد تطورت مفاهيم الحرية في استخدام الإنترنت إلى درجة أن أصبح حقا من حقوق الإنسان تكفله الاتفاقيات الدولية، حيث أكدت القمة العالمية لمجتمع المعلومات في دورتها الأولى (جنيف 2003) والثانية (تونس 2005) على حرية التعبير، وحرية تدفق المعلومات والمعارف والأفكار، ورأت أن هذه الحرية تعود بالنفع على التنمية.

كما تفيض الفضاءات الإلكترونية بخطابات عديدة تتصل بحقول متعددة؛ وهي تعد امتدادا لخطابات الحقول الحياتية الواقعية؛ فثمة معلومات ومعارف وأخبار، وسيرٌ وأحداثٌ، ومنتجات ثقافية (أشعار وقصص ومقالات وفنون)، وثمة صور عديدة من الرسائل الشخصية والسرد الشخصي التلقائي، وثمة صور عديدة من الرسائل الاتصالية الجماهيرية (الإعلامية)، بل إن ثمة صورا عديدة من الرسائل الشخصية التي توجه الأفراد بعينهم، وغير ذلك من الخطابات.

والغريب في هذه الخطابات أنها تجميع من هنا وهناك، ومن إسهامات فردية بحتة، لذلك فإنها تشكل عالما غريبا متناقضا، لا هوية له ولا صبغة، ولا حدود فيه للحقول المختلفة؛ فكل حقل يخترق الحقول الأخرى دون استئذان، ويكون السيطرة والقوة للأكثر قدرة على استخدام التكنولوجيا، وعلى إنتاج تطبيقات جديدة ومبتكرة في استخدام الحاسوب.

ومن الواضح أن الخطابات الإلكترونية -بأنواعها المختلفة- لا تعمل فقط على أسر العقل وتقبل الذات؛ ولكنها تؤثر تأثيرا كبيرا في السلوك السلبي للأفراد؛ فهي تحولهم إلى متلقين، وتمنع عنهم إمكانيات المشاركة والانخراط العميق في بناء المعنى الإنساني للتفاعل، وهذه حالة تساعد الدول على تطوير أدواتها الرقابية، وتتحول الوسائط الاتصالية ذاتها إلى أدوات للضبط والرقابة، من خلال عمليات تأطير الفكر، والعمل على خلق جماهير سلبية تستمتع بالتلقي أكثر مما تستمتع بالمشاركة.

... إنَّ مضامين الخطابات الإلكترونية مفعمة بالجوانب السلبية الداعية إلى الوهن الخُلقي؛ إننا نود فقط أن نؤكد أن مضامين الخطابات الإلكترونية على ما فيها من معلومات إيجابية وأخبار مفيدة، ومعارف جديدة -يمكن أن تحمل جوانب سلبية، قد توصف بأنها لا تتفق مع الأعراف والتقاليد السائدة، وتؤسس لشكل من أشكال الوهن الخلقي.

ويتبدَّى هذا الوهن الخلقي على مستويين؛ الأول: يتمثل في أشكال الانحراف عبر التفاعلات الإعلامية، أو في المدونات، أو المحادثات، أو المنتديات والتعليقات الشخصية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. والثاني: يتمثل في التأثيرات السلبية التي يتركها هذا المضمون المنحرف على أشكال التفكك الاجتماعي والتباعد الاجتماعي في المجتمع.

وتُشير البحوث إلى أن محتوى المضمون الاتصالي يغطي مجالات عديدة من مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وقد أشارت دراسة حول مضمون التفاعلات في المنتديات الجماعية إلى أن أبرز التفاعلات كانت تتم حول موضوعات ترفيهية، يليها التفاعلات الثقافية، فالتعليمية، فالاجتماعية. كما أكدت الدراسة نفسها أن التفاعلات الخاصة بالمحادثات تحتل مكانة بارزة جدا بين تفاعلات الإنترنت، وأن موضوعات التفاعل في المحادثات تختلف عن الموضوعات المطروحة في المنتديات.

فقد جاءت الموضوعات الاجتماعية في البداية بنسبة كبيرة، وجاءت الموضوعات الرياضية في المرتبة الثانية، تلتها الموضوعات الثقافية، والتعليمية، والدينية، وجاءت الموضوعات الجنسية في الرتبة قبل الأخيرة، تلتها الموضوعات السياسية التي احتلت المرتبة الأخيرة. ونأخذ هذا التوزيع للموضوعات المطروحة في المنتديات أو في المحادثات الشخصية دليلا على تنوع هذه الموضوعات، وتغطيتها لمجال واسع من قضايا الحياة.

كما تُعد جرائم الحاسوب والإنترنت من أهم مصادر الوهن الأخلاقي في عالمنا المعاصر، حيث تحولت إلى مصدر للتهديد، بل إلى مصدر لاختراق الأمن القومي للبلدان وتهديده، مع الإسهام في خلق نوع جديد من الحروب يطلق عليه حروب الجيل الرابع، تلك الحروب التي تستخدم الوسائل التكنولوجية والقوى الناعمة في تغيير المجتمعات، ودفعها إلى تغيير عقائدها وأهدافها وتوجيه سياساتها لخدمة مصالح معينة.

وكما يسهم الإنترنت بوسائطه المختلفة في نشر الشائعات والأكاذيب -سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي- فقد أكدت الدراسات حول الشائعات أنها سريعة الانتشار عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وأن هذا الانتشار يكون أسرع بكثير من انتشار الشائعات في الواقع المعاش.

كما أن التنمر الرقمي برز بشكل كبير إلى السطح في السنوات الأخيرة واستخدامه ضد الأخرين، والتسبب في مزيد من القلق والضيق لهم؛ فمن المعروف أن البلطجة شكل من أشكال التحرش بالآخرين أو ممارسة أشكال من العنف والابتزاز لهم على نحو دائم ومستمر، وهي أكثر ظهورا في الأماكن التي يتجمع فيها البشر للدراسة أو العمل.

وأخيرا.. نتساءل: إلى أي مدى ستحول الأرقام والرقمنة العالم إلى عالم مُصفد؟ والسؤال الآخر الأكثر أهمية: ما هي طرق الخلاص والمواءمة التي يمكن أن تنقذ الإنسان من براثن هذا الأخطبوط الجديد؟

أخبار ذات صلة