زهرة السعيدية
نعرف جميعاً أنَّ الحرب العالمية الثانية قد دمرت حوالي 70٪ من البنية الاقتصادية لأوروبا وغيَّرت مجرى التاريخ بإعادة توازن القوى في العالم. لكن ما الذي زج بأوروبا في هذه الحروب والأزمات رغم كونها سباقة في حركات الإصلاح والبعث الفلسفي والفكري والتقدم العلمي والسياسي؟ يقترح أحمد زايد في مقاله "الشعبويات في الزمن الحديث للدولة الأوروبية: نماذج الفاشيات" أن ظهور النزعات الشعبوية (النازية والفاشية مثلاً) قد أوقف عجلة التقدم عن المسير وخلف آثاراً كارثية قصيرة وطويلة الأمد.
مفهوم الشعبوية وخصائصها
الشعبوية هو مفهوم سياسي يصف حركات أو مواقف سياسية تركز أنشطتها على الشعب، وتقدّمه كقوة أخلاقية خيّرة في مُقابل النخب التي تعتبرها فاسدة، غالباً ما تدعو هذه المواقف السياسة الحكومات للخضوع لمصالح الجماهير على حساب أي شيء آخر. قد يبدو لنا هذا الموقف أصيلاً إذا توقفنا على المفهوم النظري، لكن إذا أتينا على الواقع فسيبدو هذا الموقف مبهما ومعقدا وتتخلله الكثير من المشكلات، وذلك نتيجة لاختلاف دلالات مفهوم "الشعب" من حركة لأخرى، وتعدد الخبرات التاريخية، وظهوره في سياقات سياسية متباينة (مثل الشعبوية الديموقراطية، وشعبوية اليمين، والشعبوية الاشتراكية، …).
تقوم الحركات الشعبوية عادةً على تأجيج مشاعر الشعب واستخدام شعارات ورموز في خطاباتها الاندفاعية، متخذة من الأزمات الاقتصادية والاضطرابات السـياسية منطلقاً لها. وعادة ما تعتمد هذه المُمارسات السياسية على مهارات زعمائها في الخطابة والبلاغة اللغوية للتعبير عن معارضة المؤسسات التقليدية والوقوف في صف الشعب باعتباره القوة الأخلاقية المُناقضة للنخبة. هذا بالإضافة إلى أنَّ هذه الحركات عادة ما تتأسس بقيادة شخصيات نرجسية تحظى بكاريزما ساحرة، وأبسط مثال على هذه الشخصيات هو زعيم معبد الشعوب جيم جونز الذي تأثر كثيرًا بكتابات ستالين وهتلر والذي قاد رعيته إلى انتحار جماعي مأساوي في 1978.
تبث الشخصيات الشعبوية روح العداوة والشقاق بين الشعب من أجل التأكيد على الهوية وكسب الجماهير للحصول على دعم مسيرة التسلق إلى السلطة. وعادة ما لا تستند هذه الحركات على قيم مركزية ومبادئ واضحة وإنما تقدم حلولاً سطحية لمشكلات شائكة. من أبرز سمات هذه المواقف كذلك أنها تشخصن الممارسات السياسية؛ أي ترتبط قيم وتطلعات الحركة بقيم زعيمها، وهنا يتجلى وجه القصور في هذه الحركات، حيث يصبح القرار رهينة أهواء رجل واحد (عادة ما يكون جامدا ومنغلق الفكر)، ثم إنَّ غياب هذا الزعيم أو موته يعني بالضرورة انتهاء الحركة.
النزعات الشعبوية في أوروبا
بالرغم من أنَّ مصطلح الشعبوية ظهر حديثاً (في القرن العشرين) إلا أنَّ الشعبوية بصفتها ممارسات قد حدثت في أوروبا منذ العصور الرومانية واليونانية، وقد اتخذت شكلاً واضحاً متطرفاً واكتسبت سمعتها السيئة بظهور النازية والفاشية المعادية للتعددية وحقوق الإنسان.
يفسر الكاتب ظهور الأيديولوجية الفاشية (الفاشية هنا تشمل كلا من النازية، والفاشية، وجبهة الأرض، وحزب التمرد، وغيرها …*) من خلال عاملين، أولهما أزمة المجتمع الرأسمالي التي رفعت مستوى الفقر والبطالة ودخول النظام الليبرالي في أزمة نتيجة الصراع الذي دار بين دعاة الاشتراكية ودعاة الليبرالية والذي كان أساسه مصالح اقتصادية واجتماعية مختلفة. عند هذه النقطة، دخل الفاشيون في الصراع، كردة فعل لتلك الأحداث، وأخذوا ينشرون أفكارا مغايرة مدعين أن هدفهم هو الانتصار للشعب، ولا يبدو حتى هذه النقطة أن هنالك مشكلة فالانتصار للشعب غاية أصيلة، لكن أن تصبح الدولة فوق المجتمع وأن تتجاهل المصالح وميل البشر نحو التعدد والرغبة في إدارة مصالحهم الشخصية بما يرونه مناسبا، هنا تكمن المشكلة؛ حيث إن الفاشية والنازية كانتا تدعوان إلى إعادة تنظيم الرأسمالية بحيث تخضع لتنظيم سياسي واجتماعي أحادي يسير على نهج واحد.
أما العامل الثاني فقد كان ظهور تيار محافظ يدعو إلى نوع من التشدد وإعادة القيم الأخلاقية والتقليدية التي حطمتها الثورة الفرنسية، وقد ظهر هذا الفكر المحافظ جلياً في توجهات القيادات الشعبوية.
خصائص النزعات الفاشية
من أهم خصائص الفاشية العامة هي دأبها على إلغاء التعددية السياسية والثقافية وفرضها لفكر واحد باعتباره يوّحد الأمة تحت مظلّة واحدة. لا يكون في مثل هذه المجتمعات حرية للفرد في اختيار أفكاره أو إدارة مصالحه، فكلاهما رهينة لقرارات الدولة. هذا بالإضافة إلى عداء هذه المواقف مع النزعات اليسارية سواء كانت ماركسية متشددة أو اشتراكية ديموقراطية، وليس أوضح مثلاً على ذلك من الاعتداءات التي شنتها فيالق الفاشيين ذوي القمصان السود على العمال في إيطاليا، وزج الماركسيين في معسكرات التعذيب في ألمانيا النازية. وبالطبع لا يخفى على أحد عنصرية هذه النزعات واختزالها للتاريخ في "رؤى عرقية ضيقة" وربما يكون أكبر دليل على ذلك معاداتهم للسامية وتعذيبهم لليهود.
وكنتيجة لكل هذه الخصائص أصبحت الفاشية تعادي الديموقراطية لأنها برأيهم تقف في طريق عمليات الانتقاء الطبيعي، فالتقدم برأيهم لا يحدث إلا بالقوة والسلاح، وقد قال بريمو دي ريڤيرا زعيم الحزب الفاشي الأسباني إن الأزمات لا تحل بالديمقراطيّة وإنما بشعراء يحملون في أيديهم أسلحة، وهنا تظهر خاصية أخرى وهي النزعة العسكرية الإمبريالية التي كانت سبباً في إشعال فتيل الحرب العالمية الثانية.
حاضر الشعبوية ومستقبلها
قد نعتقد أن زمن الشعبويات قد ولى، لكن في الحقيقية فإنَّ القوى الشعبوية أصبحت تتصاعد في الآونة الأخيرة، ولا أقصد هنا في شكلها المخيف الذي حدث في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، وإنما في شكل أقل حدة. بانت مظاهر الشعبوية في الزمن الحديث مثلاً في حركة بيغيدا التي تناهض أسلمة الغرب، وكذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصعود بوريس جونسون إلى منصب رئاسة الوزراء. وربما تكون خطابات ترامب أبرز مظاهر الشعبوية في الزمن الحديث، حيث يغلب طابع العنصرية والقومية المتطرفة والتخويف على خطاباته، هذا بالإضافة إلى محاولته لتمرير قانون ترحيل مئات الآلاف من المهاجرين من أميركا. كتب ترامب في مقال نُشر في صحيفة وول ستريت جورنال مقالا قال فيه: "الترياق الوحيد لعقود من الحكم المدمر من قبل حفنة صغيرة من النخب هو فرض الإرادة الشعبية في كل قضية رئيسة تؤثر على هذا البلد.. إن الناس على حق، والنخبة الحاكمة على خطأ"، إذن لابد أن نطرح أخيراً سؤالاً مهماً، هل ستستمر هذه القوى الشعبوية في الصعود حتى تظهر نزعة شبيهة بالنازية والفاشية، أم أنها ستموت في مهدها؟ تبقى الإجابة إلى هذه اللحظة رهينة بالعوامل الاقتصادية والسياسية، والتأويلات.
